بقلم / أ. أيمن دراوشة – الأردن
أ. راضية جراد - الجزائر
عن شركة الخليج للطباعة والنشر، صدر حديثًا للكاتب والقاص القطري جمال فايز المجموعة السادسة من سلسلة مجموعاته القصصية المتميزة والتي بدأها بسارة والجراد في عام 1991م، واختممها بمجموعته الفريدة الأخيرة "عناقيد البشر" ، والتي أعدُّها ثورة على مجموعاته السابقة من حيث الشكل والمضمون والمعالجة الفنية، والأهم والمفاجئ قضية الاختزال الذي نجح فيها الكاتب نجاحًا مدويًا متمردًا على ما يسمى بالإطالة والحشو الممل من دون داعٍ.
لم تعد المجموعات القصصية القصيرة في عصر الحداثة مجرد سرد نثري، أو طلاسم واستعراضات لم يعد له رواجًا في عصر متسارع ينطلق انطلاق الصاروخ.
ولم تعد القصة القصيرة مجرد نبات طفيلي ينمو بين مساحات فضائية مهملة، تفصل بين أنواع أدبية محتفى بها كالرواية والشعر والمسرح، بل غدت جنسًا أدبيًا مطلوبًا ومتفوقًا على الرواية والشعر.
في مجموعته الإبداعية "عناقيد البشر" المكونة من أثنتي عشرة قصة، والتي تعد تجربة إبداعية لها مذاقها الخاص، وكونها خُطَّتْ في فترات زمنية تعمَّد الكاتب ألا تكون متسلسلة، فالماضي يعيد نفسه بنفس الطرق وإن اختلفت الأساليب.
لقد تملك القاص جمال فايز باقتدار واستبصار، الوجود الغائض في الباطن الإنساني، واستنطاق الحياة السرية المختبئة في ذات الذات.
اختراق السطح إلى العمق، وحشود القضايا لعلاقات وأفعال ، وتجاوز الشكل إلى الجوهر ، ما يميز هذه المجموعة ، مما يكمِّل معرفتنا المبتورة ، ويتمم رؤيتنا المحددة ، من خلال تملك القاص تلك الطاقة المندفعة من قدراته الإبداعية ، وقواه التصويرية والتخيلية ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ، قصته "عناقيد البشر" التي حملت اسم المجموعة ، وإنها حياتنا ، والبوعزيزي ، وكائنات بشرية...
القاص هنا لا يعرض شخوصه في سماتها العامة، ولا للإنسان في صفاته المتشابهة، وإنما يعمل على اكتشاف خصوصية الشخصية، وما هو ذاتي فيها، وليس ما ينتظم أو يأتلف مع الشخوص الإنسانية، وقد تمثل ذلك في قصة "الباحث عن شيء آخر".
ومن خلال رؤى القاص الفنية، نحس بشخوصه، وكأنهم وُجدوا حقيقة، ومارسوا فعل الوجود ، ونكاد نتحسس حياتهم البائسة في تناقضها وصراعها ، وفي اللحظة ذاتها تتحول الأفكار من جهامة تجريدها إلى فاعلية تندغم في بنية الأحداث ، وأكثر ما تمثل ذلك في قصة "رجل لا ظل له" وقصة "البوعزيزي"...
وللقاص خبرة حياتية وثقافية أتاحت له تقديم رؤى متعمقة للجوانب النفسية والفكرية والاجتماعية، مع بصيرة نافذة بأثر تلك العوامل في توجه الشخصيات وتشابك الأحداث، وخير ما تمثل ذلك في قصة "الأحمر على الأبيض يتمدد"، ونجدها جلية في قصة " البحر لا يبرح مكانه"
ولا يغيب عن أذهاننا ان المادة الخام التي خملت في الحياة، قد أعاد القاص صقلها وتشكيلها في أداء قصصي مثير، ليزيل عنها رتابتها، لتتحول إلى فن له حيوية مُحسَّسة ، وله تَجَسُّده المفعم بمختلف أشكال الوجود الإنساني ، مع الإيهام بالواقع وليس استنساخه.
لقد تآزرت جزئيات الأفكار، فتم إبداع "وحدة فكرية" شملت المجموعة بأكملها، وصبت في بؤرة الفكرة الرئيسة.
كما أجاد القاص تحريك شخوصه وتشكيلها كالعجينة بين يديه، فلم يقيدها تجاه غرضه الخاص، مع قدرته في الوقت ذاته ، على تحريك الشخصيات، وانتقاء دقيق وحاسم أمام تلك الإغراءات المتاحة في ساحة القصة القصيرة.
المجموعة القصصية عناقيد البشر ما هي إلا مرآة على قارعة الطريق، تعكس ما أمامها، ونشهد على سطحها حركة المارين.
استعراض بعض قصص المجموعة:
افتتحت المجموعة بقصة حملت عنوان "إنها حياتنا" بمعنى أنها حياتنا البراقة التي تفتقر للقيم الأخلاقية، نقد حاد مبطن عبر البطل الرئيس المتسول الكهل الذي تحصل على صدقة تسد جوعه وهي عبارة عن بقايا سندويتشات ليتصدق بها لمتسول أخر مقعد، قصة مؤثرة تناقش فيها الأنا البشري الذي يعيش في الثراء الفاحش حياة ضياع ، متناسيًا في الجانب المقابل أنَّ هناك فئة من البشر لا يجدون لقمة تسد جوعهم، ولكنهم يحملون قيمًا أخلاقية أكثر من الفئة الأولى.
القصة الثانية وهي التي تُوجَت عنوانًا للمجموعة القصصية كما أسلفنا "عناقيد البشر" وظاهر القصة يحكي تجربة البطل بقدوم أول حفيد له، يفتتحها بكابوس دموي يعكس الواقع العربي المُعاش. قدوم الحفيد إلى الحياة هي رسالة إنسانية وجهت للقارئ مفادها ، أننا كلنا إخوة في الإنسانية باختلاف أعراقنا ولون بشرتنا أو جنسيتنا، كل البشر تولد ملائكة والمحيط وحده هو من يجعل فئة منهم إنسانا أو شيطانًا في هيئة إنسان، صورة تعكس ما نعيشه الآن من طائفية ، وأفكار خاطئة عن الإسلام، وختم الكاتب القصة برؤيته لثلاثة أطفال يلعبون في بهو المستشفى أحدهم يحمل مسدسًا ، والآخر يختفي منه ، والثالث يتفرج حائرًا بين الآخريْن ، صورة تحمل الكثير من الدلالات لما يحدث في العالم العربي في سوريا ، العراق وغيرها... وهذا ما رمز له القاص في الغلاف باللون الأزرق (الفتنة).
في قصصه "العابرون إلى الداخل"، " البحر لا يبرح مكانه "، "البحث عن شيء آخر" تصب هذه القصص في نهر واحد وهو نهر عدم ارتياح الروح البشرية من الثقل الحضاري ، الذي تنامى بصورة مخيفة في حاضرنا، فالعصرنة وللأسف أحالت بعض المهن في طي النسيان ، هذه المهن التي لطالما شكلت لعقود من الزمن جزءًا رئيسًا من الهوية الوطنية القطرية كمهنة الصيد والغوص ، إنَّ شبح التكنولوجيا وَلَّدَ حنينًا مستمرًا لماضي بسيط لكل ما يحمل من حب وسلام داخلي ، فليست المهن وحدها التي افتقدت ، وإنما الجلسات البسيطة في قهوة الصيادين ، واحتساء القهوة على أنغام الصوت والتراث الغنائي ، هذه كلها بدأت في الاندثار على ضفاف الكوفي شوب والمراكز التجارية، حنين الى أيام المحمل والسب على إيقاع توب توب يا بحر ، حنين إلى الحب والحياة والجلسات العائلية، والتي عوضت بجلسات الواتس أب ، مما أشعرنا بعدم ارتياح الكاتب من دوامة التكنولوجيا التي جعلت كل العالم يعيش حالة من الضياع النفسي والاجتماعي.
"رجل بلا ظل" و "الغمة “قصتان صوَرتا لنا بطريقة مؤلمة جدَّا لمست أحاسيسنا بانهيار الروابط الأسرية فمن المفروض أنَّ الأب بعد كبره يكون محاطًا بأحفاده وأبنائه، وليس بالمسنين في دار الرعاية، أو قابع وحده في الحديقة، يراقب تساقط أوراق الشجر ورقة تلوى الأخرى، فكل ورقة متساقطة ترمز لسقوط قيمة من القيم الأخلاقية، وهو ما رمز له القاص في الغلاف باللونين الأصفر والبرتقالي (الدفء، الحب)
ولأن السياسة جزء أساسي في الضياع البشري فإنَّ التطرق إليها في المجموعة كان لا بُدَّ منه، بحكم النضج الفكري الذي وصل إليه الكاتب، وكانت القضية الفلسطينية الموضوع الأساس، بحيث نقلنا إلى قلب المعركة، فعشق أهل فلسطين لترابهم أقوى من حبهم للحياة؛ ليصبح الحب مصدر حزن لروح البشرية، وتكون الشهادة مهر الحب الذي يقدمه شباب فلسطين لوطنهم الأبي، وهذا ما لمسناه في قصتي " لوطني أغني" و" تراب على صدري".
إنّ الاستبصار القصصي في نفاد بصيرته اخترق بكل شفافية ورهافة النوافذ المغلقة لعوالم خبيئة لشخوص غائصة ، وعلى امتدادها يتجلى السياق القصصي للمجموعة ابتداءً من سيميائية العنوان "عناقيد البشر" ذي المعنى الخفي ،الذي يلخص أفكار القصص الواردة فيه وهو ما تراكم من سلبيات الحياة على الروح البشرية ؛ لتكمل معناه صورة الغلاف دون أن ننسى رمزية العناقيد الأربع الموجودة في الصورة والتي ترمز إلى الطبيعة ، والتي افتقدت في عصر التكنولوجيا ، مرورًا إلى مراحل السرد والمفارقة ، ولأنَّ النص الأدبي هو عبارة عن فسيفساء من النصوص السابقة حسب الناقدة جوليا كرستيفا ، فإنَّ عناقيد البشر كانت فسيفساء في المواضيع المطروحة ، وفي التقنيات الأدبية ، ونذكر على سبيل المثال توظيف القاص للتناص المباشر في قصيدة منتصب القامة أمشي للشاعر الفلسطيني سميح القاسم، والأغنية التقليدية توب توب يا بحر ، حيث تطرق الكاتب للحياة الماضية للمجتمع القطري ، والتي تُعد صورة مصغرة للمجتمع الخليجي ، مما يجعل المجموعة مادة دسمة للدراسات الإنتروبولوجية.
بين الواقع المعاش الذي أثقل كاهل الروح البشرية، والصراعات السياسية التي جعلتنا نعيش حالة توتر مستمرة، والمفاهيم العبثية، تشابكت القصص؛ لتنسج مجموعة رائعة تستحق أن تدرج في رف المجموعات القصصية العالمية، كتلك التي تذكرنا بقصص الكاتب أرنست هيمنجواي.
وقد أحسن الكاتب صنعًا حينما أورد معاني الكلمات الصعبة في حاشية المجموعة خاصة فيما يتعلق بمصطلحات البحر وأدواته ، والتي أصبحت من الماضي والتراث الإنساني المنسي.