الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

من رواية لغة الماء

2014-05-13 00:00:00
من رواية لغة الماء
صورة ارشيفية

الحدث - عفاف خلف

تحت وطأة الموت أغفو، أرسم نهراً يتوهج من نبع يطهر كل الأدران يغسلني، يتدفق، يغزوني، يتسلل إليّ عبر الجلد واللحم والعظم، يصل القلب، وأولد من رحم الماء تقياً، أنصهر بمحرقة النقاء.

هذه الليلة مولاتي، سأكشف كل أوراقي لديك، سأبكيك، وأعلن ضعفي أمامك، لن أورايك القلب، أريده عشقاً فاضحاً، وما همّني إن رأوك عاريةً في عيوني، ولم أغلق عليك ألف قفل وباب، تعالي الآن، يقضّني بردٌ لاسع البرودة، كإبر ينخز في الأعماق، تعالي الآن، دفؤك يغري، سأتشاطر وإياك ملذات العشق الحرام، نتشارك ذات الهوى، وذات الحنين، وللصدفة أيضاً، سأتقاسم معك ذات العمر وذات الأيام. 

مهزوم أنا سيدتي، أرفع راياتي تمجيداً لدمارٍ يسكنني، هذا الجسد من الداخل منهار، لن تجدي حجراً يؤازر أخاه في هذا العمق المتصدع بانهيارات الخيبة وزلازل الفوضى، أرغب في دفءٍ يعيد تنظيمي من جديد، في عمرٍ من الأحلام التي لا تنكسر، في جوعٍ إلى رحمٍ يعيد تشكيلي دون وجع، دون ألم، هذا الجسد من الداخل منهار، أي حنين يسكنني فيضيء دماري؟ أصرخ رعباً لأشلاءٍ تتكوم في الداخل، ولركام يعشش في الزوايا.

منذ فقدتهم ما عادت الكلمات تستقيم معي، استشهدوا جميعاً، ولم يترك الموت من أحد، تركوني شاهد موتٍ على الحياة، حفروا بصماتهم فيّ وناموا، اقرأيني يا غاليه، ولا تتعثري بالحروف وبالندوب، فقد كتبوا بالدم واللحم حكاياتهم، خدشوا روحي بأظافرهم، ولن يتوقف نزفها يوماً.

تقلبت على السرير، هذا النوم يبعد ملايين السنوات الضوئية، الدار تنعم بالهدوء، والقصف ما زال يتواصل في الخارج، أو ما زال يتواصل في رأسي. لفتت نظري حركة مقبض الباب، أبعدتُ أوراقي، نهضت سريعاً، وجذبت الباب، كانت فاطمة.

 ما بك محمد؟ هذه أنا فقط.

 ادخلي، ادخلي.

دخلتْ، أغلقتُ الباب خلفها، بعد أن ألقيتُ نظرة على الصالون:

 أين أمك وأبوك؟

 نائمان، وتوقعت أن أجدك نائماً.

 عدت واستلقيت على السرير، سحبت سيجارتين، لي ولها:

كي أنام أحتاج لعلبة فاليوم أو أسيفال، أو ذاكرة مفقودة.

 أو حديث يعقّم الروح.

 أي حديثٍ سيعقّم روحي؟ لو تفتحين قلبي يا فاطمة سترين أنه ينزف دماً وقيئاً، كلما أغمضت عيني لا أرى سوى أشلاءً ممزقة، وأجساداً مبقورة، وحين أتنشق الهواء لا يتصاعد في أنفي سوى رائحة الموت، أتعرفين رائحة الموت؟ هل ذقتها يوماً؟ مزيجاً من رائحة الدم، واللحم المحروق وتراباً خانقاً مختلطاً بالبارود.

 لا شعورياً ارتجفتُ، اقتربتْ مني، شعرتُ بها، أنثى تضج بها الحياة:

  – وهذا البرد الذي يجلل عظامي بالثلج، لن أشعر بالدفء يوماً يا فاطمة، سأبقى من الداخل مقروراً.

مدت ذراعيها لي، نهضتُ وحملتها كطفلة، وضعتها في سريري، وارتحت على صدرها، لم تعارضني، تماماً كيوم كنا خطيبين.

أتشعر بالشفقة علي؟ لا أرغب في تحليل مشاعري أو مشاعرها الآن، أنا هنا قاب قوسين أو أدنى من الشعور واللاشعور، لا أحتاج إلى تحليل أو منطقية في التفكير، ربما تبلدت مشاعري، ماتت، هناك تحت القصف، سأبحث عنها يوماً بين التراب والدم واللحم المعجون، أما الآن:

 أحتاجك الليلة.

 محمد، أنا معك، يشق عليّ أن أراك هكذا.

رفعت كفي إلى وجهها كان مبللاً بالدمع، قبلتْ أصابعي وبدأت تداعب شعري بأصابعها.

- أحتاجك؟

 لست أهلاً لك، كيف ترضى بنصف وطن، ونصف جسد؟ أنت من يرفض أنصاف الحلول!

لولا رضوخنا لأنصاف الحلول ما وصلنا هنا! كيف لك طعني يا غالية!

كم من السنوات ستذوي احتراقاً بانتظار الموت؟ اختاري إما أن تكوني لي بكامل امتداد الحدود التي تفصلنا، وإما ألا تكوني، اردمي الهوة بجسرٍ من اللقاء الدائم، سأعلمك أن اللقاء، ذروة الحياة.