الحدث - بقلم: أنور الخطيب
الخامس عشر من أيار، وأنا مولود في الحادي والعشرين من أيار، وُلِدَت النكبة قبلي بستة أيام، وفي اليوم السابع استويت على عرش الغربة، أو اللجوء، أو النزوح، لم أبارك أحداً ولم يباركني أحد، لا أحد مباركٌ في اللجوء، ولا بركة لأحد في الشتات، الكل ملعونون إلى يوم يُبعثون، يوم العودة.
هي القيامة إذن، ولا أبشّر أحداً بها، فالذين ادّعوا النبوة يفاوضون الشياطين منذ أن قضم آدم التفاحة وضاع في متاهات الأرض، والأرض تنكمش كل يوم قرية، وكل ساعة بلداً، حتى تكاد تتلاشى، فلا أجد موطئ قدم لي، وكل خطوة بعدها ستكون في فراغ مقيت، ولن أقول: (إلى أين أمضي)، فقد مضيت هائماً على وجهي، أهيم منذ ستة وستين عاماً، منذ أن كنت رغبة في عيني أبي وأنا هائم، لا أكلّم أحداً، رغم أن أمي معروفة الأصل والجذور، ولم يسألها أحد حين (انتبذت مكاناً قصياً)، ولهذا، لم تقل لأحد (هذا عبدالله)، لست من روح الله، وموطني ليس في السماء، موطني على الأرض في قريتي الآيلة للسقوط، منذ ذلك اليوم لم أر وجهي، ووجهي ليس الذي في المرايا، ولا في عيون من شُبّهوا بي ولي، ولا في قلوب أبناء لغتي، وجهي أراه فقط محفوراً على جذع زيتونة عمرها أكبر من عمر جد جدي، وجهي الذي أخضعوه لآلاف عمليات التغيير (وليس التجميل)، أعرفني بعيداً عن (المغيّرين والمتغيّرين)، ولا أعرفني حين أراني.
في الخامس عشر من أيار، تتساوى الجهات في هاوياتها، تجاوزت درب الآلام بكثير، ولكنني ما زلت على خشبة الصليب، ولا من أحد يسأل (الحجاج): (أما آن لهذا الفارس أن يترجل!!)، جميعهم منشغلون بفتاوى لا تشبه تاج الشوك المحيط برأسي، بفتاوى تدور حول موضوع واحد، لو ترجل هذا الفارس، على أي أرض سيسقط، ومن سيتحمل ترددات سقوطه؟ ليجتمع الشيوخ في مجلس أمن القبيلة وليصدروا قراراً بشأن الأرض التي ستحتويني، وسيصلهم القرار من خلف البحار: (قررنا بناء جدار حوله كي لا يراه المصلوبون بعده، سينسونه بعد جيلين أو ثلاثة، وسيتعايشون على المسامير في بواطن الأكف والكواحل، حتى يأتي جيل يعتقد أنه وُلدَ بهذا، فالهزيمة قد تنتقل مع الجينات، أيها “الأبوات”.
أيها الغارقون في دمي،
ولم أغرق في دمكم يوماً،
لا أريد أن أترجل،
وشيّدوا ما شئتم من العماء
سأبقى معلقاً كي تلعقوا هزيمتكم،
فأنا الميت الحي
الحي الميت
الذي سيُبعث من خيمته
يوم لا ظلّ سوى جرحي.
أيها الفارون مني،
ولم أفرّ منكم يوماً،
سأبقى مرآتكم التي أنزلها الله عليكم
كي تروا من يوسوس فيكم على وجوهكم..
خنتموني كثيراً
وما زلتم على أهبة الخيانة،
خذلتموني مذ ولدت
وما زلتم على أهبة الخذلان،
والأرض تنكمش تحتكم ولا تفقهون، وستخطون مثلي في جهات تشبهكم، ولن يشبّه الله لكم أحداً،
ستمرون في دروب أكثر ألماً، وستُصلبون على صلبان وسع الأرض والهزائم، ولن تمر بكم أمهاتكم باكيات، لن يصرخن أمام (الحجاج)، أما آن لهذا الفرسان أن تترجل، فأنتم والفرسان على طرفي نقيض.
حبوتم كثيراً.. تجرحت ركابكم، وماتت ركبانكم، وحادي العيس لن يئن، زرعتم في حناجره أسفاركم السوداء كلها، سوى سفرٍ أخير أخفاه في لوحه المحفوظ: سفرُ الحياة.
سيبقى المغني ينفخ في نايه المقدسة،
سيبقى على صهوة التلال،
يدفع الريح (الصرصر) نحوكم،
ويبني له سفيناً،
يأخذ معه من كل فلسطينيين لاجئين
ومن كل فلسطينيين عاشقين،
ولن يحملكم،
بدونه لن يُكتب لكم البحر،
بدونه لن تأخذوا كتابكم بيمينكم،
بدونه ستبقون في عرائكم
عريٌ صمٌ بكمٌ
كأنكم لا تحلمون..