الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

روىً في الفكر والسياسة... "جاذبيَّةُ الحركات السِّياسيَّة، وجاذبيَّة القائد المُلْهَم المَعْصوم"

بقلم: رائد دحبور

2017-01-10 02:14:06 PM
روىً في الفكر والسياسة...
رائد دحبور

 

 

ما الَّذي دَفَعَ ويَدْفَعُ بقطاعات واسعة من المجتمعات والجماهير إلى تأييد الأحزاب والحركات السِّياسيَّة والسَّيرِ في ركابِها على نحوٍ لافتٍ وفي حالَةٍ من الولاءِ المُطْلَقِ، بل وفي حالَةٍ مُفعَمَةٍ بالشُّبوبِ العاطفي والانفعالي في كثيرٍ من الأحيان، وصولاً إلى أخذِ آرائها ورؤاها كمسلَّماتٍ غير خاضعة للنقاش في أحيانٍ كثيرة؟! وكيف تنشأ ظاهرة القائد المُلْهَم المعصوم؟!

 

ربَّما هي جاذبيَّة الأفكار والبرامج والوعود، بالنِّسْبَةِ للمُعدَمين أو فاقدي حقوقهم الأساسيَّة، أو الَّذين يَسْعَونَ إلى النِّضالِ من أجل تحقيق مستوىً ما من العدالة، وربَّما هي جاذبيَّة تحقيق الطُّموح والمجد الشَّخصي بالنِّسْبةِ لِبَعْضِ النُّخَبِ الفكريَّةِ والاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ، وجاذبيَّةِ تحقيق المصالح بالنِّسْبَةِ للبعضِ الآخر، وربَّما هو النُّزوع إلى ممارسة أشكال السُّلطة والنُّفوذ كطبيعةٍ ذِي بُعْدٍ سيكولوجيٍّ لدى البشر.

 

وربَّما هي مفاعيل التَّعَلُّقِ بالقوى المطلَقة أو بمن يُمثِّلُها، أو الإيمان العميق بفكرَةِ المُخَلِّص؛ من تدفع إلى تقديس شخصيَّة القائد، وإسباغ صفات الإلهام والعصمةِ عليه.. ثمَّ إنَّ النَّاسَ يجدون في الأفكارِ الشُّموليَّةِ وبمن يدعون لها – ربَّما – إجاباتٍ سهلةٍ لتساؤلاتِهم ووعوداً ورديَّةً بحلولٍ لمشاكلِهم، وهذان الأمرانِ الأخيرانِ أيضاً لهما مَسَاسٌ بعمق التكوين السَّيكولوجي والعاطفي لدى الكثيرين.

 

حاولتِ الباحثة الألمانيَّة "حَنَّة آرِنْدِتْ" ومنذ وقتٍ طويلٍ تقديم إجابة عن هذا السُّؤال عبر كتابِها "جذور التُّوتاليتَاريَة/ أو جذور الشُّموليَّة" بالقول:

 

"في بداية كل حركة سياسية ينجذب إليها في العادة صنفان من النَّاس الأول هم "المُعْدَمُون"، ونقصد بالعدمية هنا كل صنوفها.. مُعْدَمُو الأمل والمال الذين لا يجدون في الحياة الكثير مما يغريهم. والصنف الثاني هو عكسهم تماماً وهم النُّخْبَة، سواءً الفكرية أو الاقتصادية؛ فهؤلاء يملكون من الطموح والرؤية ما قد يجعلهم ينخرطون في مثل هذه الحركات كي يكتبوا أسماءهم على لوح التاريخ بماء الذهب، لكن هذين الصنفين لا يمكنهما إقامة حركة توتاليتارية/شموليَّة؛ لذلك تلجأ الحركة الشُّموليَّة إلى تسخير الدعاية وفي أحيانٍ كثيرة تناضل الحركة الشُّموليَّة للوصول إلى السلطة عبر نظامٍ دُسْتُورِيٍّ ضامنٍ لحرية الرأي - ولو نسبياً - فتبدأ الحركة بممارسة ألاعيبها في هذا الهامش المتروك لها وترسخ أقدامها في تربة المجتمع عبر الدِّعاية ".

 

لكنَّنا نجدُ أنَّ حنَّة آرندت هنا – وربَّما وفي مجملِ كتابها/ جذور الشُّموليَّة – قد ركَّزت على تناول ظاهرة الأحزاب الشُّموليَّة العقائديَّة – دون غيرها من الحركات والأحزاب الليبراليَّة في أوروبا – وَحَصَرَتْ مجال بحثها في تناول الأحزاب الشُّموليَّة في كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا وروسيا؛ لذا فقد عَنْوَنَتْ كتابها الصَّادر عام 1945 بعنوان "جذور التوتاليتارية – هتلر وستالين مَعاً"، وقد حاولت من خلال ذلك وضع الحركات والأحزاب الشُّموليَّة من حيث الخصائص والسِّمات والماهيَّة والأدوات الَّتي تستخدمها في سلَّةٍ واحدة، حتَّى ولو كانت على طَرَفَيْ نقيض – وضَرَبَتْ مثالاً على ذلك بمقارنتها بين الحزب القومي الاشتراكي/النَّازي في ألمانيا، والحركة الفاشستيَّة في إيطاليا، والحزب الشُّيوعي في الاتِّحاد السُّوفييتي السَّابق، خصوصاً في عهد جوزيف ستالين – برغم أنَّ الاتِّحاد السُّوفييتي الشُّيوعي هو في حقيقة الأمر من دَحَرَ النَّازيَّة وهزمها ودَحر معها الحركة الفاشستيَّة الحليفة لها في إيطاليا في نهاية المطاف - ورأتْ أنَّ القاسم المُشتَرك بين كافَّة الأحزاب الشُّموليَّة هو اللُّجوء إلى استخدام الدِّعايَة على نحوٍ فعَّال، عِوضَاً عن حاجَتِها إلى الأيديولوجيا – أو العقيدة الحزبيَّة، والتَّركيز على شخصيَّة القائد كَشخصٍ مُلْهَم ومُلْهِم في ذات الوقت، والتَّعامل مع مقولاتِهِ ورؤاه كنبوءَاتٍ من المُسَلَّم به أنَّها ستتحقَّق، بل ينبغي تحقيقها في المستقبل؛ وهو ما يدفع بجماهير تلك الأحزاب والمؤيدين لها والفاعلين فيها إلى السَّيرِ وفق تلك النُّبوءَات والعمل في دائرةِ تأثيرها السَّيكولوجي الفَعَّال؛ فعلى هَديِ الآيديولوجيا، وعلى هدي النُّبوءَات المُتَّصِلَةِ بالقائد – الَّذي هو بمثابة النَّبِيِّ المُقدَّس – تَنْدَفِعُ الحركة نحو غاياتِها. وبالتَّالي فإنَّ تلك الحركات بحاجَةٍ إلى آيديولوجيا وإلى دعايَةٍ وغلى قائدٍ مُلْهِمٍ كي تَحْيَا وتستمر وتنتَعِشْ.

 

لا بُدَّ هنا وللوصول إلى خُلاصَةٍ من ضرورةِ التَّفريق – ومن حيث المبدأ – بين المقصود بالأحزاب الشُّموليَّة، وغيرها من الأحزاب والحركات اللِّيبراليَّة، فالأحزاب الشُّموليَّة هي تلك الَّتي تَتَّخِذُ لها عقائد مُحَدَّدة كأساسٍ يُحدد غاياتها ويرسم أهدافها، ويضبط حركة تَشَكُّلِها ويحدد إيقاع حركتها، وكِمِعيارٍ يضبط علاقة الأفراد بها ويضبط علاقتها بالواقع، فالرَّأيُ والمصلحة والأولوِّيات والأهداف - من وجهة نظرها ووفق منهجها - يجب أن تكون للجماعة على حساب الفرد وآرائه، وهي تسعى للوصولِ إلى السُّلطة كآليَّةٍ تستهدِفُ من خلالها فرض وجهة نظرها العقائديَّة تجاه كافَّة مناحي الحياة، وضبط حركة المجتمع في كافَّة حقول نشاطاته الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة وفق رؤيتها العقائديَّة – ومن ثمَّ وفي كثيرٍ من الحالات وفق ما يراه القائد المُلْهَم المعصوم، ثمَّ تتحوَّل السُّلطة لديْها إلى غايةٍ بحد ذاتها.

 

أمَّا الحركات والأحزاب الليبراليَّة فهي تُحاول أنْ تكون بعكس ذلك، فهي لا تُعْنى بالإتِلافِ على أساسِ العقائد، وتُحاوِلُ أنْ تطرَح برامج سياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة واقعيَّة ومَرِنَة، وهي تستهدف الوصول إلى السُّلطة كآليَّةٍ لإمضاءِ وتطبيق تلك البرامج – وهكذا يبدو في ظاهِرِ الأمر.

 

لكن ومن وجهة نظري، فإنَّ أمرَ اللُّجوء إلى استخدام الدِّعاية لا يقتصر على الأحزاب الشُّموليَّة فحسب بل إنَّها إحدى الوسائل الَّتي تلجأ إليها الحركات الشّمُوليَّة والليبراليَّة على حدٍّ سواء ، وكذلك هو الأمر – في بعض الأحيان – فيما يَتَّصِلُ بصناعة كارزميَّة أو مثاليَّة القائد المُعَلِّم المُلْهَم والمُلْهِم، فلطالَما اتَّخذتْ بعض الحركات الليبراليَّة قادَةً - صوَّرَتْهُم كمُلْهَمينَ – يُلْهِمونها، ولطَالَما تحوَّلتْ برامِجها إلى حالَةٍ من الجمود، وإلى ما يشبه العقائد. وبذلك فإنَّ الدِّعاية – وربما الوسائل – عِوَضاً عن تكريس فكرة جاذبيَّة القائد، إضافةً إلى تقديس العقائد، لدى الأحزاب الشُّموليَّة، والبرامج لدى الأحزاب الليبراليَّة، إضافَةً إلى توليدِ الدَّوافع لدى الجمهور أو قطاعاتٍ عريضة من المجتمع إضافةً إلى النُّخَبْ، للالتحاق بتلك الحركات؛ تُعَدُّ قواسِمَ مشتركة بين مختلف أنواع الحركات والأحزاب السِّياسيَّة سواءً أَكانتْ ليبراليَّة أو شُموليَّة.

 

ولَئِنْ كانَ الألماني "كارل سميث" أحدُ مُنَظِّري الفكر النَّازي قد قدَّمَ في كتابِهِ الصَّادر عام 1927 بعنوان "مفهوم السِّياسة" رؤيةً فريدةً مُسْتَهْجَنَةً من حيث ماهيَّتِها واستدلالاتِها ومدلولاتِها حول مفهوم السُّلطة الشُّموليَّة، بما يعني ضرورة أنْ تسعى السُّلطة الشُّموليَّة إلى التَّحَكُّمِ بكافَّةِ أوجه ومناحي الحياة بما في ذلك التَّعليم والفَن وأخلاقيَّات المواطنين والمجتمع والاقتصاد، وبما يعني إذابة الفرد وحرِّياتِهِ الفكريَّة والشَّخصيَّة وخياراتِهِ، ومستقبله الشَّخصي وصَهْرِهِ فيما تفرضه ضرورات المفاهيم الجِنْسانيَّة أو العرقيَّة الشُّوفينيَّة – التَّعصُّب القومي – وإذا رأينا أنَّ السُّلطة الشُّموليَّة والأفكار المُلْحَقةَ بها كانتْ تسعى لإلغاءِ الفرد لحساب المجموع وتُسَخِّرُ المجموع في خدمة رغبات القائد المعصوم؛ فإنَّنا نرى في المقلبِ الآخر أنَّ مؤدَّياتِ الليبراليَّة ونتائجها - وعلى نقيضٍ مُتطرِّفٍ مِمَّا فرضته مفاهيم الشُّموليَّة - قد هضَمَتْ حقوق ومصالح الجماعة وخياراتِها لصالح الفرد، أو لصالحِ عددٍ قليلٍ من الأفرادِ في المجتمع مِمَّن يملكون زمام الحياة الاقتصاديَّة والثَّقافيَّة، بحيث أنَّ الأحزاب الليبراليَّة وفي الغالب قد مثَّلتْ المصالح الاقتصاديَّة لمجموعات محدودة من الرأسماليَّة الاحتكاريَّة.

 

ولَئِنْ كان "كارل سميث" الألماني - كما أسلفنا – حاول ومن خلال كتابه مفهوم السِّياسة أنْ يُلغي الفرد والمجتمع لحسابِ السُّلطة الشُّموليَّة؛ فإنَّ الإنجليزي "آدم سميث" وفي كتابِه الشَّهير "ثروة الأمم" والَّذي يُعدُ إنْجيلاً للرأسماليَّة، والَّذي نادى من خلاله بضرورة تقديس الحريَّة الاقتصاديَّة للأفراد وبلا حدود في ظلِّ سيادة المفاهيم الليبراليَّة، قد حاولَ – وربَّما أفْلَحَ في ذلك – إلغاءِ المجتمع لصالح مجموعة جَشِعة من الأفراد يتكرَّس نفوذهم من خلال إمساكهم بمفاصل السُّلطة؛ حينما قالَ عن نشاط الفرد الاقتصادي الاحتِكاري: دَعْهُ يعْمَلْ دَعْهُ يسير، لا تُزْعِجْهُ؛ دَعْهُ يربح أكثر!!

 

وكذلك عندما تحدَّثَ عن النَّشاط الاستعماري الاستثماري للثروات المعدنيَّةِ والمَنْجَمِيَّةِ في الخارج بما يُتيحُ للسلطة الاستعماريَّة ولِشَرِكاتِها أنْ تُحوِّلَ تراب معادن المُسْتَعمرات إلى ثروةٍ وافرةٍ من السِّلَع وتُعادُ إلى سكَّان تلك المستعمرات وتُباعُ لهم بسعرِ الذَّهب.. وبما يجعلُ كذلك من مفهومَيِّ نفوذ رأس المال وتقديس الحريَّة الاقتصاديَّة الاحتكاريَّة المحمومة الَّتي ترعاها أحزابُ اللِّيبراليَّات الرَّأسماليَّة وسلطة الشَّرِكات الاحتكاريَّة الكبرى ليسَ مُجرَّدَ مفاهيمَ رياديَّة مُلْهِمَة، بل آلِهَة تُعْبَدْ!!