أنْ تكتب الشعر بعين رسّامٍ ليس جديدا على تاريخ القصيدة في العالم، ولا على هذا الجنس الأدبي الذي يمتاز بالرحابة والقدرة على استضافة تقنيات الفنون الأخرى. لأنّ الشعر بمعنى ما هو نوعٌ من التشكيل الذي يتفق مع الرسم في ما تختلقه المخيّلة وإنْ كان يختلف معه في الأداة.
بهذه النقطة التي يلتقي فيها فنّانِ عظيمان رفع الشاعر الجزائري ياسين بوذراع نوري معبده حيث يختلط ورق الكتابة بورق الرسم، والمكتب بأنهار اللون المنبجسة من المرسم. بل من هذه النقطة بالذات يمكن الولوج إلى عالمه الشعري الذي تظهر عليه ما تبدعه يد الرسّام وهي تكتب الشعر، يدُ الشعر وهي ترسم اللوحة. بل من هنا أيضا يمكن فهم قصاصات المشاهد التي يؤثث بها نصّه بلغة تعي جيدا ما يليق بالشعر من الحذف إلى درجة الصمت، والصمتِ إلى درجة الصراخ في وجه العالم:أغلقْ فمك، لا تتحرّك، أحاول أنْ أرسم لك قصيدة تشبهك وتختلف عنك، لأنّ ياسين وهو يلتقط من الحياة ما يصلح مادةً للكتابة لا ينسى أبدا أنْ يمنحها حياةً مغايرة يلوّنها قلبه الصوفيّ وتكتبها"شجرة أقلام"(من القرآن الكريم)من روحه الغابة الفاتنة.
فيما يلي، لوحات من شعر، شعر من رسم للجميل نصا وإنسانا الشاعر ياسين بوذراع نوري، أترك للقارئ حرية التلقي والتحليق مع الرؤى حين تصبح سماء من بهجة وجمال:
* ياسين بوذراع نوري؛ شاعر ورسام جزائري، من مواليد سنة 1969 بقسنطينة. خريج المدرسة العليا للفنون الجميلة ، قسم الرسم الزيتي.
بلا معنى
شالٌ لهذا الفجر رائحة البنفسجِ..
طيف نافذة تحدّق في المروجِ
كأن موسيقى تجيء لصيقة بالعشبِ
ليل قرمزي يختفي في غابة السرو البعيدةِ
في انحسار الكهرباء عن المصابيح الهزيلةِ
في مفاجأة كعطر البرتقالِ
كغيمةٍ تتجوّلين بشارع في الحلمِ ...
هادئة كدوريّ يوزّع ظلّه فوق السنابلِ
- مثلما قمر يسدّد ضوءه فوق البحيرةِ -
رحت أحمل لهفتي، وأمدّ كفّا غضّة نحو الجديلةِ
(ربّما أقنعت هذا الحلم أن يبقى لساعاتٍ)
بلا معنى يمرّ، وترحلين كنجمة في الفجر يائسةٍ
بلا معنى تسير الشمس عارية على سقف من الزلّيج أزرقَ
بركة الماءِ ... الطريق الملحُ ..
مقهانا الذي كنّا نودّعه، ونحضنه
ونحمله إذا جسد تفسّخَ في المكانِ
أنا رفيقي في الطريق الرخوِ
أنصحني ... وأسمع حكمة السنواتِ
ثمّ أعود مندفعا بما ترك الشباب على المفاصل من وميض البرقِ
لا معنى لهذا الفجرٍ
كان الليل عرّافا
وكنّا نحمل الأخشاب في دمنا
لنُصْلَبَ كيفما شاء المساءُ
نواجه الأشياء عارية من الأسماءِ
مبهمة كأشباح المغارةِ
(ربّما لو مرة علمتَنا الأسماء كاملة ً ...
أكنا نقتفي أثر الخطيئة مرة أخرى ؟
سنقنع حينها بدم يفوح كعطر كمثرى)
ولا معنى لهذا الفجرِ
هذا الرمل قدّيس على الصحراءِ
هذا البحر سوناتا لبحّار عجوز ٍ
كلّما ألقى شباكا ..
تطلع النوتات من أوجاعه فضيّة كالماءِ
هذا البرق وهج عصا تشقّ الأرضَ
تنبت زهرة النارنج في جلد البناية ِ
يستفيق السرخس البريّ في عرق الصخورْ
تلك النجوم كأنها خرزٌ تناثر في يدي زنجيّة
كانت تمدّد جلدها قيلولة عند الظهيرةِ
حين لا تبقى من الخطوات إلا عثرة في آخر الدرب الأخيرْ
لم يبق غيرك في المكان ِ
فلا تكن للفجر فاكهة ً ... ستؤكل مرتينْ ...
ليل المدينة
أترقّب الفجر الذي يأتي كعادته بطيئا، يقرع الأبوابَ.. يدخلُ.. يستقرّ على حوافّ المزهرية نقطة بيضاءَ، تبتسم الشوارعُ خلسةً..وهناك في جلد البنايةِ تضحك الشرفاتُ، تلقي ظلّها كالنمل فوق الباعة المتجولينَ، صراخهم ينقضّ منكمشا على حلمي فيثقبهُ، وتختلط الرؤى.. ليل المدينة لا ينام كقطّةٍ في الركنِ، يشرب قهوة بعد الظهيرة دفعةً ليردّ أبواب النعاسِ، الليل يطلع من عباءة ساحرٍ، من جوف أغنية تحنّ إلى البدايةِ... ليلنا فحم تيبّس فوق أحجار المنازلِ... في المدينة صبية يتآمرون ليقذفوا حجرا على البيت المقابلِ، طائران يغازلان الريح في شرفات مئذنةٍ تحكّ ذراعها في غيمة الإسمنتِ... هذا الليل لا يمضي، ولا تمضي مواجعنا، أشمّ غريزة العنقاءِ، والعنقاء تعجز أن تعود من الرمادِ، فلا الرماد كما الرمادْ.
يا كاهن الليل الأخيرْ
عبثا تدير الدفة العمياءَ
تبحر في السوادْ
في زورق الخوف المثيرْ
ومددت في سحب الظلام يدي، فلم أعثر على جسدي هناكَ، بخفّةٍ أتحسّس الأشياءَ، أبصر بالأصابع ما تغيّبه العيونُ ، رأيت أزمنةً تجيء من الدخان شحيحة كالماءِ، شيخا تستقيم بظهره المعوجّ أسرار البداية و النهايةِ..
هادئا يمشي لحفرتهِ.. جبالا غضّةً ترمي معاطفها وتحضن ساكنيها.. في المدينة شارع يتناسل الأشباح في طرقاته ليلا، أراهم يرقصونَ ويسكرونَ ويطعنون الليل في ملكوتهِ... حبلى تعاند زوجها في جنس مولود جديدٍ، لم يزل متخفيًا بالغيب... هل يأتي ليشهد موته قبل الولادة مرتينِ؟.. يعلّق حبله السري مشنقة على صفصافة الحيّ العتيقةِ؟
في المدينةِ... لهفة العشاق باردةٌ، وطعم العيد مالحْ.
يا كاهن الليل الأخيرْ
كالنصل هذا الدرب جارحْ
وأنا بلا هدف أسيرْ
مسافات
متشبها بالماء أنزل من سماء الله مرتطما بأحجار الطريقِ
الفكرة الحمقاء ناصيتي
دليل الرحلة البلهاءِ
هذي الأرض مذأبةٌ، ومملكة الشياطين المقدّسةُ
انفراج موغل في العالم السفليّ
هذي الجنة التي اكتشف القراصنة الفنيقيون
يخطئ عالم الآثار حين يرتّب الأشكال للمعنى
ولا معنى لهذي الهمهمات
كأنّ إنسانا يطارد أيّلا في غابر الأزمانِ
(لا ندري من المتوحّش الإنسان أم هذا المعلّق في جدار الكهفِ)
أنزل من سماء الله أبيض ، حاملا قلقي كنجمات معلّقة بقمصان المساءِ
اليوم عطلة آخر الأسبوعِ
منتشيا بما ألقيت من تعب على كتف السريرِ
خرجت نحو الشارع القفر الرماديّ
الزقاق معبّد بالصمتِ
هذا الجسر لا يفضي إلى شيء
كأنّ الدرب منكمش على الخطواتِ
في وضح الفناء العام، أين محطّة الترامواي
حيث الناس أرقام مدوّنة على ورق التذاكرِ
يجلس الغرباء مثل صفائح القصديرِ
يسأل عابر عن دورة الماءِ
المسافة بين ما ترنو إليه وما تراه بعيدة كالأطلسيّ
ولا سفائن غير ما ضيّعت في الجزرِ
استندت إلى جدار باردٍ
كان الصباح يرتّب الأشياءَ
لا تبدو كما يجبُ
الهواء مدجّج بروائح المازوتِ
والعينان مغمضتانِ
أدخل في التفاصيل الدقيقةِ
في ممرّ الراجلين،وفي عواميد الإنارةِ
في القمامةِ، في فضاءات التسوّق في الفراغِ
ولا أرى ما يشبه المدنَ
الحياة كأنها موت، وهذا الدرب مقبرةٌ
فمن أيّ الجنازات المقيتةِ
يولد الوطن المسافر في غبار العائدين بنعشهم خال من الإنسانِ ؟
سوف تقول أمهلني لأصعد من تنفسك اعتلالا يعصر الرئتينِ
حمى في المفاصلِ
غنغرينا في الطريق إليكَ
أمهلني، أنا وجع التساؤل فيكَ
خيبتك التي أدركتَ
طيش الأربعين، أنا حضورك والغيابُ
...............
نسيت في هذا الصباح السترة الصوف
الجليد يدسّ منقارا من الفولاذ في كتفي
نسيت الهاتف الخلويّ، أوراقي وقرص الفولترين
الشارع المأهول باللاشيء يسحبني إلى طين العمارةِ
وحده الضوء الهزيل يرشّ أقواسا من الظلّ
انحناءات على الشرفاتِ
يدخل عنوة في القبوِ
يدخل قاتلا كالنصل في لحم الضحيّةِ
خدعة بيضاء مثل الخبز دون موائد الفقراءِ
رائحةٌ (مزيج البنّ والعفنِ) ارتمت في الجوّ مثل أصابع البارودِ
بكتيريا تعشّش في الهواءِ
.............
تقول تشبهني، وتجزم أننا نصفان
أنّك وجهيَ المدفون في المرآةِ
أنك جثة مثلي بأبعد غيضة تستعطف الغربانَ
لكنّي أراك بأعين القهر الكفيفةِ
غيمة، وحجارة مرصوفة في الحلقِ، منفاي الأخيرَ
اليوم عطلة آخر الأسبوع، أنزل من سماء الله منتشيا
فهل سأعود منتشيا ؟
منظر غير طبيعي1
نتبادل الأدوارَ، أنت الآن ساكنتي
أنا باب المدينة، سقفها، أسوارها الطينيّة الحمراءُ
فاتجهي إليّ ، ضعي حقائبك الثقيلة واستريحي حيثما شئتِ
البيوت جميعها وقفٌ عليكِ .........
عليك أن ترخي قوامك في سرير دافئٍ
أنا شرشف الكتّانِ، عطر المزهريّةِ
أوكسجين الغرفةِ
الكتب القديمة فوق رفٍّ هادئٍ
أرأيت كيف حروفها انفجرت حمامات تتمتم باسمك الورديّ؟
...............
أنت الآن جائعةٌ؟
إذن سأكون فاكهة الفصولِ
أنا رغيفكِ
سلّة الدرّاقِ
زيتون الجبالِ
أنا نقيع الضوء في كأس الزجاجِ
الشرفة/ القصر المطلّ على الرصيفِ
الشارع المأهول يلمحنا
سنهبط كوكبين إلى الطريق العامِ
هل أبصرتني؟
أنا أرضه الإسفلتُ، جدران الرخامِ
.....................
اليوم مفتوحٌ
أنا لا ليل فيّ
أنا نهار دائم، شمس معلّقة على الحيطانِ
تضحك حين تبتسمين، تزداد اتساعا، قد تصير جميلة كجمال وجهكِ
هل رأيت سحابة كالقطن تغسلنا بماء الوردِ؟
تلك قصائدي......
نجري معا ...نبتلّ ... نضحك ... نسلم الأعضاء للنوم الخفيفِ
ونستفيق بركن مقهى دافئٍ
أنا شايهُ والبنُّ ، نادله الأنيقُ
أنا الطريقُ
وفتنة الضوضاءِ
فالضوضاء موسيقى
فهل سأكون كورساكوف ... تشيكوفسكي
لنرقص رقصة الفالس المثيرةَ؟
لا أجيد الرقص مثلكِ
لا يهمّ ... سأكتفي بتتبّع الخطواتِ
أنت الآن ساكنتي
إذن .. نتبادل الأدوارَ
يوما ما سأكسر قمقم المنفى
سأمسح في ترابك لحم وجهي .
منظر غير طبيعي 2
لا أبالغ إن قلت إنّي كفيفٌ
كفيف بعينين ثاقبتينِ
كنسر على غيمة في السماء البعيدةِ
يرقب نبض فريستهِ
لا أرى
وأرى بالأصابع تنهيدة الضوء في قلّة البورسلينِ
انحناءة مئذنة في الطريق إلى اللهِ
شمسا نحاسيّة تقطف الظلّ
تحمله في حقائب باردة وتغادرُ
ليلا كسيحا يجرّ مفاصلهُ
يترنح مثل عجوز بخمارة أنهكته الكؤوسُ
المساءَ الذي يبصق البارُ في الطرقاتِ
أرى قمرا يرتدي غيمة ً
كوكبا لا يضيء كما ينبغي
لا أرى ...
وأرى حين أستاف رائحة الطينِ
هذي البيوت المقابرَ، هذا المواتَ
أعدّ الجنازات واحدة تلو أخرى ......
الدكاكين مغلقةً والنوافذَ
لكنّني لا أرى ...
وأرى كيف تكسو الطحالب جلد الصخورِ
وكيف تعضّ الرطوبة لحم البناياتِ
كيف الضباب يهزّ أراجيحه الفاتنات على طرف الجسرِ
قالت محدثتي في الطريق :
(المدينة دوحة جوز خرافيةٌ
جذعها لحم أبنائها )
قلت: (هذي المدينة تأكل أبناءها كالقططْ)
صمتتْ برهة ً
فشممت ارتعاش أصابعها
كان للصمت رائحة تثقب الرأسَ
لكن سائق سيّارة الأجرة استدرك الوضعَ
أطلق ضوضاءه من مكبّرة الصوتِ
( نجمهْ ..... يا نجمهْ )
كأن النجوم هنا انطفأتْ
ما يقول المغني إذن ... ؟
(أرلكان) الذي كان لم يعد
الضحكة احترقتْ
علبة الماكياجِ، اللباس الطويل المرقّع كالشطرنجِ
هوى المسرح، انهار فوق الرؤوسِ
استوى الركح بالأرضِ ....
لا تبتسمْ
أنت في ليل سيرتا
إذن أنت ظلّ سنونوة لا يقرّ على شجرٍ
جثّة في العراءِ ....................
فلا تبتسمْ .