بقلم: سلمان ناطور
أنا فلسطيني لم يهجر من بيته.
عرفت ما معنى اللجوء في بيت جدي.
عائلة «أبو الهيجا» من قرية عين حوض كانت في طريق الرحيل عام النكبة. استوقفها جدي وعرض عليها اللجوء في بيته إلى أن «تمضي الغيمة السوداء».
أمضت العائلة معنا في البيت نفسه ست سنوات.
لم أكن أفهم لماذا لي جدان وجدتان وأعمام كثيرون وأولاد يقاسمونني رغيف الخبز المطلي باللبنة أو الزيت والزعتر وحبة الحلوى.
سمح لعائلة أبي الهيجا بالعودة إلى الأرض القريبة من القرية، لكن لم يسمح لأفراد العائلة بالعودة إلى بيوتهم التي احتلها الفنانون اليهود.
لم أفهم عندما كنت طفلا لماذا لا يعودون إلى بيوتهم كما كنت أعود من المدرسة إلى بيتي. ولما كبرت وزرت بيوتهم القديمة والتقيت فنانين لا يؤلمهم أنهم يسكنون في بيوت ليست لهم، عندها أصبحت أفهم الألم على نحو يختلف عما كنت أفهمه صغيرا.
ألم الروح أقسى من ألم الجسد، لأن ألم الجسد إن مضى لا يترك أثرا وألم الروح يبقى حتى بعد أن يمضي. يختبيء ثم يظهر من جديد في الذاكرة والحلم والوعي.
في مدينة أحبها..
ولدت في قرية جميلة على جبال الكرمل ولم أغادرها إلا لفترة قصيرة منذ رأيت النور، ولا أعرف سر هذه الإقامة الدائمة في بلدة لا توفر لي شروط حياة تشبع رغباتي في تناول وجباتي اليومية الروحية، فليس فيها مسرح ولا سينما ولا عروض موسيقية ولا مهرجانات.
ألجأ إلى المدينة القريبة التي أحبها، إلى حيفا، التي تطغى عليها ثقافة أخرى ولغة أخرى.
أتقن ثقافة الآخر الإسرائيلي جيدا ولكنها ثقافة القوي، ثقافة من يسبب لي الألم والمعاناة، فيحزنني أن هذا هو قدرنا نحن الباقين في وطننا، ولا أخلص من شعوري بأن أحسده على قدرته الفائقة أولا على التعايش السلمي مع الخطيئة التي ارتكبها قبل سنين طويلة، وما يزال. وثانيا على ما يتوفر له من إمكانات لصناعة ثقافة متطورة يلف بها في كل العالم.
محزن ومفرح أن أذهب إلى المدينة التي أحبها.
أحزن عندما أرى معالمها العربية تتآكل يوما بعد يوم وتختفي بيوت الحجر والأقواس لتحل محلها عمارات القصدير والزجاج العالية والرمادية بلا لون ولا شكل وتستحضر ذاكرتها يوم كانت منارة ثقافية فأطفأها غزو جاء من الغرب جهة البحر، يدّعي أنه يحمل حضارة لكنه دمر المدينة بهمجية بالغة.
أفرح لأنني أرى المدينة التي أحبها تستعيد شيئا من نكهتها الثقافية الفلسطينية بمراكز ومسارح ومقاهي وصحف وقصائد وروايات وبين الحزن والفرح نحاول أن نبني حالة مستحيلة من التعايش، لا لشيء إلا للحفاظ على البقاء.
أفضل ما يوفره لنا هذا الواقع هو متسع للتأمل وللتفكير بالحياة، وعندما نكتب تراوح كتابتنا بين التراجيدي والكوميدي وبين الجاد والساخر، فنتفنن بالجدية إلى حدود العبث ونتفنن بالسخرية إلى حدود العبث أيضا.
لجيل اختار الحياة...
نبكي على حالنا ونسخر من حالنا.
أدركت هذه الحالة قبل ثلاثين عاما عندما قررت أن أبحث عن الذاكرة الفلسطينية لدى الجيل الذي عاش النكبة وعرف ما معنى الخوف والتشرد والموت.
ذهبت إلى هذا الجيل ليجيبني على سؤال قاس واجه كل أبناء جيلنا، نحن الذين ولدنا بعد النكبة، والسؤال هو: كيف حدث أن تركوا بيوتهم وقراهم وتحولوا إلى لاجئين بين ليلة وضحاها؟
كنت أعتقد أن هؤلاء الناس سيحكون لي كل شيء وسيفرغون ذاكراتهم بقصص وحكايات وشهادات من مصدرها الأول، ولكنهم صدموني عندما امتنعوا عن الحديث.
قال لي البعض: إن ما حدث لهم هو جرح مفتوح ولا يرغبون بأن نضغط عليه كي لا ينزف، ليس فقط لأن ألم التشرد موجع ولا يحتمل بل لأنهم يشعرون بالذنب عندما يسألهم أبناؤهم لماذا هربتم.
كان أمامهم خياران: الموت أو الرحيل، فاختاروا الرحيل لأنهم انحازوا إلى الحياة.
وقال آخرون: إنهم يخافون من الحاكم العسكري ومن السلطة الإسرائيلية.
كانوا مسكونين بملاحقة الحاكم العسكري رغم مرور أكثر من عشر سنوات على إلغاء الحكم العسكري. وعندما نطقوا وبدأوا يسردون رواياتهم انكشف عمق الجرح وبشاعة الجريمة التي تعرضوا لها. لقد كبروا مع هذا الألم إلى أن فارقوا الحياة. حاولوا في البداية إخفاءه عن أبنائهم وأحفادهم لكي لا يتعذبوا هم أيضا، لكنهم كانوا يقولون لنا: أفعلوا كل شيء لكي لا يحدث لكم ما حدث لنا.
هل نجحنا؟
نحن أيضا فشلنا ونشعر بالذنب لأن جيلنا لم يضمن لأبنائه حياة أفضل، فمشاهد القتل ظلت تتكرر ولا تزال حتى كتابة هذه السطور في غزة والضفة الغربية وفي الجليل والمثلث. نستيقظ كل يوم على مشروع جديد يهدد بترحيلنا وعلى قانون يضعنا أمام خيار الولاء للدولة الصهيونية أو التنازل عن وطننا وكان آخرها التحكم بذاكرتنا ومنعنا من إحياء ذكرى النكبة وإشهار الولاء المستحيل.
نقصد ما نقول
لماذا نواجه الألم بالسخرية؟
أتساءل أحيانا عندما تقسو علينا السياسة وأكتشف أن هذه هي الطريق الوحيدة التي تبقينا على قيد الحياة فنتجاوز الوجع أو نضعه جانبا وننشغل بما يضمن لنا استمرار الحياة.
نحن الفلسطينيين ككل شعوب الأرض نبني ذاكرة ولنا رواية تتشكل يوما بعد يوم، وما سمعته من أهلنا كان الدعائم الأولى لذاكرتنا الشفوية عن الرحيل والموت، ولكنني رفضت أن تكون ذاكرة للموت فقط بل ذاكرة للحياة ايضا، عن حياة الناس في قراهم قبل أن تهدم، عن أغانيهم وسهراتهم، عن مواسمهم وحصادهم وعن عشقهم للارض.
إن من يبني ذاكرته على الموت فقط سيجد نفسه وأبناءه وشعبه أمام خيارين: إما الانتحار أو ارتكاب الجريمة، فلا نحن نريد أن ننتحر ولا نريد أن نرتكب الجريمة، كما فعل الإسرائيلي الذي بنى ذاكرته على الموت فقط منذ خراب «هيكله» وحتى الهولوكوست وواصل مشروعه حتى اليوم وهو يرتكب الجريمة تلو الأخرى ويمارسها بأبشع أشكالها في صيغة الاحتلال.
كم هو مؤلم أن ترتبط حياتنا بالحروب. ما ان ننتهي من حرب حتى نبدأ التفكير بالحرب القادمة. نعرف أنها ستأتي عاجلا أم آجلا لكن لا نعرف اين ستقع ومن هي الضحية القادمة منا أو من أهلنا، والأشد ايلاما ان تقرن تواريخنا الخاصة والشخصية جدا بالحرب فنذكر مناسباتنا، الطيبة والقبيحة، في سياق حرب مدمرة.
عشر حروب كان جيلنا شاهدا عليها، من نجا منها يعرفها بتفاصيلها وضحاياها وهي تعود إلينا في كوابيس الليالي القاسية. وعندما نصرخ «كفى للحروب» فاننا نقولها بكل جدية وألم، نحن نقصد ما نقول.
مساق السنين الضوئية
هل نستطيع أن نتحدث عن ألم جماعي؟
هذا هو الألم الجماعي، إنه ألم الفرد في سياق الجماعة وهو مجموع آلام الأفراد وهو الذي لا ينتهي عند الأنا إلا اذا انتهى عند الآخر.
ما الذي يخفف الألم الجماعي إذا لم ينته وما الذي يخفف ألم الفرد؟
لا شيء أمام الجماعة إلا الأمل بأن مستقبلا أفضل ينتظرهم للخلاص ولكي يأتي هذا المستقبل ما عليهم إلا أن يقاوموا ويناضلوا وأن يعيشوا على فسحة الأمل وجدوى النضال، والألم الفردي يخففه البحث عن بديل للموت وعن حياة تتجدد.
أنا ذاهب إلى المستقبل بعزيمة وثقة بالنفس! أعرف ما سيعترضني ولكنني أعرف من ماضيّ أن الأصعب صار من ورائنا. محنة المعتدى عليه ليست أصعب من محنة المعتدي. الصراع في نهاية الأمر على نهوض الأول وانهيار الثاني.
أنا مع سيرورة التاريخ، والتاريخ يتقدم نحو تحقيق ذاتي، ربما بمسافات سنين ضوئية، ولكنه يتقدم نحو العدالة والحرية وكرامة الانسان. فلنسر مع التاريخ لا ضده!