فاجأني الدم المتسرّب من أسفل العتبة وأنا أهمّ بفتح الباب، تراجعتُ إلى الوراء قليلا، إلى قدر مسافة تجعلني أفهم ما الذي يحدثُ. السيّل يغطي البلاط ممتدًا بحركة زحف وئيدة، رأسه بحمرة قانية تكاد تسوّده، ثم يتدرّج جسمه بخفوت يعيد اللون إلى أصله.. قلتُ أخيرًا لنفسي: هذا لون الدّم، هذا دم.. كيف يحصل ما يحصل في بيتي؟
تركتُ البيت لهدوء مطلق، سبقتني زوجتي في الخروج إلى عملها وتأخرت كعادتي لقضاء بعض الشؤون، لم يكن غيرنا، أطفأتُ الأنوار، ثم أقفلت الباب خلفي ومضيتُ..
هل كان ثمة ما يريب؟
لا أذكر أني لاحظت على حياتي في المدة الأخيرة ما يربكها أو ينغّص صفوها، لا أعداء لي، ولست ممّن ينساق إلى مغامرة جديدة أو يتورّط في مشكلة عارضة، ولا علاقات لي إلاّ في الحدود الواضحة، حتى زوجتي لم تكن من نوعية النساء اللاتي يعقدن شبكات معارف كثيرة، كانت مجرّد امرأة مملوءة بالهدوء، قليلة العلاقات، ميّالة إلى العزلة، منكفئة على نفسها إلى الحد الذي جعلني أنصح لها في أكثر من مرة:
- ما دمتُ أتأخر كثيرا في الخارج، فباستطاعتك التعرّف إلى الجارات..
رفضت كل عرض، وأشاحت عن كل علاقة غير ذات جدوى بقولها:
- خلينا من تكسار الراس ..
لأشهد لنفسي إذًا أننا بلا أعداء، وأنّ ما يحدث إنما يحدث بطريق الخطأ، وأنّ الدّم الذي مازال يزحف نحو موطئ قدميّ ويحيط حذائي، ثم يتجاوزه.. لا شأن لي به..
ولكنه في بيتي، على العتبة أقف، بيني وبين الباب أذرع خوف ورعشات سؤال، ثم هذا الصّهد الذي يلفحني بكل حقد النّار، تآكلٌ سوف ينتهي إلى غايات الرّماد، وهول صوت يهتك كل شيء ويفضّ الصمت الذي بقيتُ فيه لبرهة وأنا أتأمل منظر الدّم الزّاحف نحوي، ثم اندفاع الدخّان من كل منفذ، ليتكاثف بسواد يحجب الرؤى، ويد تدفعني بقسوة، وصوت كالشخير:
- الشظايا.. ابتعد عن الشظايا..
انزلقتُ، أحسستُ بلزوجة سرعان ما تحوّلت إلى بلل، ضاع صوتي في بحّة اختناق، لا أمل الآن.. جسدي مسجّى على الأرض الباردة اللزجة، رائحة هلاك تتمطّى في الدنيا وتشعل الأخضر واليابس، وقال أحدهم وهو يدفع جسدي بعيدا عن الدماء:
- شرارة كهرباء بإمكانها أن تحدثُ كل هذا الخراب..
وسألتُ والسعال يحاصرني:
- زوجتي بالداخل؟
لم يأبه، يده الثقيلة تحوّلت في لحظة من الدّفع إلى السّحب، كان يجرّني في قلب ظلام موحش، وكنتُ أحسّ بالبلل وقد اخترق ظهري، ثم أبواق سيارات تملأ السمع بنعيقها المتطاير من داخل بيتي، تساءلتُ بحيرة.. كيف أمكن لها أن تدخل البيت؟ ومن أين؟ فالباب موصد لحد اللحظة التي هممتُ فيها بفتحه، كيف يحدثُ كل هذا مجتمعًا فلا أملك معه حتى معرفة مصير زوجتي؟.. ومن غضبي ركلتُ الرّجل بما بقي فيّ من قوة، وعدت أزحف بعد أن تخلّصت من قبضة يده.. يجبُ أن أرى..
تهشّم الباب في فوضى اللهب، وتآكل كل ما يعيق الرؤية.. لا أثر لزوجتي في الداخل.. بعينين معصورتين بالدخّان كنتُ أبحثُ، لم أتجاوز العتبة خوفًا من وقوع الثريات على رأسي، لكن الصراخ يملأ البيت والردهة، ورائحة دماء متفشّية في الفضاء، ولوّحت الأيدي مستغيثة من وراء الزجاج، فيما راحت أخرى تضرب بقبضاتها الواهنة الأبواب، كيف أمكن لكل هذا أن يحدث؟ وكيف اتسع بيتي على صغر حجمه لكل هذا الدمار؟ وانفلت الشاب الذي كنتُ أرى وجهه دوما يطل من وراء زجاج القطار من لوحتي المعلّقة على جدار الصالون، وهرول نحوي، فتلقّفته في حضني، وأنا أسأل:
- كيف حدث كل هذا؟
- القطار.
- ما به؟
- خرج عن السكة.
- كيف؟
- كما ترى..
- أليس للأمر علاقة بشرارة كهرباء أو تسرّب غاز في البيت؟
وقبل أن يتفوّه بكلمة أخرى، دفعني رجلٌ بدا من زيّه أنه شرطي، وقاد الشاب إلى الخارج..
بقيت أتابع اللهب وهو ينهش القطار، وتناهى إلى سمعي بعض الأنين المتقطّع الذي راح يخفتُ شيئا فشيئا، فيما تداعت الأيدي، واستسلمت الأجساد..
كان القطار قد خرج عن السكة كما روى لي النّاجي الوحيد من حادثة اللوحة، أما زوجتي فتصرّ على أنّ الحريق لا علاقة له بتلك الرواية، فاللوحة في أصلها لقطار خارج عن سكته، وحين يحتدّ الكلام بيننا، كانت تسحبني من يدي إلى الصالون لأرى بأمّ عيني أنّ القطار ما يزال يحترق، وأنّ النّاجي الوحيد الذي يبدو مهرولا نحونا لم يخرج من إطار اللوحة بعد.