رام الله - محمود الفطافطة
أكد الإعلان العالمي لمنظمة "اليونسكو"، بشأن التعليم العالي في القرن الحادي والعشرين، الصادر في العام (1998) على "ضرورة اعتماد سياسات واضحة فيما يتعلق بالتعليم العالي في البرامج التعليمية في الجامعات، وذلك باتخاذ التدابير الملائمة لتمكين الطلبة والباحثين والمدرسين من إجراء البحوث وتحسين مهاراتهم التربوية والمسلكية من خلال برامج خاصة لتطوير قدراتهم، وحفز هذه الجامعات على التجديد المستمر في المناهج وفي استخدام أساليب التدريس لتحقيق التميز في مجال المناهج والبحث العلمي".
ما جاء في هذا الإعلان يدلل على وجوب الاهتمام بنوعية وتميز مدخلات العملية الأكاديمية للوصول إلى مخرجات مفيدة لواقع ومستقبل المتعلم وتنمية مجتمعه. فالتعليم المدرسي يعزز لدى الطالب نزعة الانتماء والاهتمام بالمعرفة، بينما التعليم الجامعي فينمي مهارات التحليل والربط المنطقي، في حين الدراسات العليا يجب أن تعمق تنمية التفكير الناقد وروح المسؤولية. بكلمات أخرى: إذا حققت المدرسة للطالب كيف يكتب فعلى الجامعة أن تحقق له كيف يفكر ويقرر.
وانطلاقاً من هذه التوصيفات والمعايير العامة الواجب تلازمها ببرامج الدراسات العليا، ندلف بالحديث نحو واقع هذه البرامج في الحالة الفلسطينية لنتعرف على مضمونها وقيمتها وتأثيرها على المستهدف، كطالب، وعلى بيئة الاستهداف كمجتمع، وتنميته.
احتياجات ومهارات
بداية، نشير إلى دراسة أعدتها الباحثة سامية عمر الديك حول مدى فاعلية مساقات الدراسات العليا في تنمية المهارات لدى طلبة الدراسات العليا في جامعة النجاح، حيث تبين أن هذه الدراسات يجب أن تحقق للطالب جملة مهارات وسلوكيات، أهمها: التأكيد على القيم الوطنية، مراعاة الشعور الديني للطلبة، إذكاء روح المنافسة، تأهيل عملية الانفتاح الواعي، تطور المهارات الفردية والجماعية، تنمية مهارات البحث العلمي و الاتصال والتواصل والقيادة، تعزيز قيم الحوار والمناقشة، تعزيز الثقة بالذات، تعميق قيم التعاون والتسامح، تطوير مهارات التحليل والتفكير واتخاذ القرار، تزويد الطالب بثقافة تربوية راقية، تنمية روح المسؤولية، والنقد الذاتي ومهارة حل المشكلات، تنمية التفكير الناقد لدى الطالب الباحث، تنمية مهارات التعامل مع التقنيات الحديثة والتكنولوجية.
مثل هذه المهارات والسلوكيات تفرض علينا أن نسقطها على ما هو واقع وحاصل في بيئة الدراسات العليا في جامعاتنا الفلسطينية، مع الإشارة، هنا، إلى أن الهدف من هذا التقرير هو التطرق، بصورة عامة، إلى القضية المعالجة، سيما وأن هكذا قضية تحتاج إلى دراسات ميدانية متواصلة وموضوعية.
وبعد أن بيّنّا أهم ما يتوجب على برامج الدراسات العليا أن تقدمه للطالب، نود هنا التطرق إلى الاحتياجات الأكثر أهمية بالنسبة للطلبة. في هذا الخصوص تُظهر دراسة، أعدها كل من زياد بركات و كفاح حسن، أن هذه الاحتياجات تتمثل في: التعامل مع الأزمات ومشكلات الحياة الاجتماعية، معرفة حدود الحرية المتاحة والمسموح التعامل خلالها مع الغير، معرفة الوصول للمعلومات الخاصة بدراسته، بناء علاقات طيبة مع زملائه ومدرسيه، المعرفة بالحقوق والواجبات إزاء نفسه وغيره.
وتشير الدراسة إلى أن برامج الماجستير في أغلب جامعاتنا الفلسطينية ما زالت تتسم بالتقليدية والمحاكاة دون اللجوء إلى الإبداع والابتكار والاهتمام المباشر بقضايا التنمية، الأمر الذي أدى إلى عزل الجامعات عن محيط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
سمات ومعيقات
تذكر دراسة أعدها الباحث مليحان الثبيتي أن أكثر المشاكل التي تواجه طلبة الدراسات العليا في الجامعات العربية هي على الترتيب: جمود التعليمات الخاصة فيما يتعلق بالبرنامج الدراسي، ارتفاع أثمان الكتب المقررة، عدم توفر الدعم المادي للطالب، وتفشي الواسطة في الجامعة، وتغيير الخطة الدراسية باستمرار، وجود محدودية في مجال البحث والإنتاج العلمي من أجل التنمية الشاملة، تواضع الميزانيات المرصودة في الجامعات والتعليم العالي للبحث العلمي، وافتقار الجامعات لمستلزمات البحث العلمي، وانقطاع الصلة بين البحث العلمي والتنمية الاقتصادية.
إضافة إلى هذه المعيقات نجد كلاً من الباحثين محمد علامي وعماد بشتاوي يتطرقان في دراسة لهما إلى مزيد من تلك المعيقات، متمثلة في أن غالبية الملتحقين بالماجستير غير متفرغين، مما يضعف من تحصيلهم وأدائهم على مستوى الأبحاث والتقارير أو على مستوى رسائل الماجستير، عدم وجود مكتبات متخصصة أو مراجع ووثائق تخص بعض المواضيع الدقيقة، مما يجعل الطلبة يتوجهون برسائلهم إلى موضوعات أشبعت بحثاً، إلى جانب عدم إلمام غالبية الطلبة بلغات أخرى غير العربية، مما يجعل رسائل الطلبة تفتقد لعنصر هام من المصادر والوثائق.
الدراسة نفسها تتحدث عن واقع المحاضر والمناهج في الدراسات العليا بالجامعات الفلسطينية، فبخصوص المحاضرين تذكر بعض السمات، أهمها عدم وجود وتبني مدارس فكرية وفلسفية لدى المحاضرين، مما ينعكس سلباً على الطلبة الذين يكتبون رسائلهم بطريقة سردية، وأحياناً بعيدة عن التحليل، وقيام المحاضرين بتدريس مساقات خارج نطاق تخصصهم الدقيق، بسبب الافتقار إلى الدرجات العلمية العليا كأستاذ مشارك أو أستاذ دكتور، وقيام محاضرين بالتدريس والإشراف على طلبة الماجستير على الرغم من عدم امتلاكهم لأبحاث علمية محكمة، وعدم مشاركتهم في المؤتمرات، أي لا يمارسون البحث العلمي وإنما تقتصر حياتهم على التدريس فقط، وغياب المعايير الصحيحة في تقييم الرسائل العلمية، وخاصة أن جزءاً من هذه المعايير غير علمية وتحتاج إلى إعادة نظر نتيجة غياب الدور الرقابي، حيث يقوم المشرف وأعضاء لجنة المناقشة بتمريرها مع علمهم بعدم صلاحيتها، عدم وجود تعاون أو تنسيق بين المحاضرين من أجل رفع مستوى برامج الماجستير، وإنما يقتصر التعاون على تبادل الإشراف والمناقشة فقط، تغليب الجانب الشخصي في العلاقات بين المشرف على الرسالة مع المناقشين بعيداً عن الجوانب الأكاديمية بحيث أن المناقش الذي يتجاوب مع المشرف يتم إحضاره.
من يقرع التطوير؟
تطوير واقع هذا المحاضر يتطلب توافر عدة مطالب، يجمل أهمها الباحث منير جبريل كرمة، في دراسة له، وأهمها: ضرورة استخدم المحاضر استراتيجيات منظمة تشجع طلبته على التواصل بشكل فاعل، وتوظيف الأسئلة بصورة فاعلة في توضيح الأفكار لطلبته، وضرورة الربط في المحاضرة بين النظرية والتطبيق، وضرورة تصويب المحاضر لأخطاء طلبته التي يقعون فيها أثناء المحاضرة، والانتقال من فكرة إلى أخرى بطريقة سلسة وفاعلة في المحاضرة، فضلاً عن أن يكون لدى المحاضر قدرة على تقديم أدلة على تعلم طلبته لموضوع المحاضرة.
وللاطلاع على بعض آراء المحاضرين، التقينا عدداً منهم ليؤكدوا على أنه لا يمكن تعميم الضعف أو التقصير من قبل الأستاذ تجاه الطالب أو المقرر، مؤكدين أن البيئة الأكاديمية في فلسطين تسهم في تردي المخرج المعرفي للدراسات العليا وسواها. ويشيرون إلى أن الطالب يتحمل جزءاً واسعاً من الاهتمام بتخصصه ومتابعة الاطلاع والتجربة والخبرة. ويطالبون بضرورة تضافر كافة الجهود والجهات لوضع وتطوير استراتيجية متعلقة ببرامج الماجستير في الجامعات الفلسطينية.
أما بشأن المناهج، فنعود لدراسة علامي وبشتاوي، حيث تبين أن مناهج الدراسات العليا في جامعاتنا تتسم بـ: الافتقار للغات الأجنبية وذلك لضعف الطلبة بشكل عام في مرحلة البكالوريوس، وعدم مواكبة المناهج للثورة العلمية التي تجتاح العالم والاعتماد فقط على الأساليب التقليدية، وعدم متابعة ما هو جديد في العالم من حيث الكتب والمنشورات الحديثة، عدا عن محدودية الاستفادة من البحوث العلمية وتطبيقها على الواقع، حيث لا يتم توظيف الرسائل العلمية بما يخدم المجتمع.
روايات ومطالب
استناداً إلى ما تم ذكره سابقاً نود الانتقال إلى آراء وإفادات عدد من طلبة الماجستير( ملتحقين ومتخرجين) بالجامعات الفلسطينية، مع الإشارة الهامة إلى أن أكثرهم لم يقبل نشر اسمه، وهذا ما يدل على إمكانية اتخاذ أساتذتهم موقفاً سلبياً منهم، يؤثر على تحصيلهم الأكاديمي. يقول (ن. س) أن أهم الأسباب التي دفعتني للتسجيل في الماجستير بجامعة بيرزيت هو الرغبة في تطوير الذات وتحصيل القدر الممكن من المعرفة والثقافة، إضافة إلى رغبتي بإكمال دراستي في الخارج.
ويضيف: "رغم وجود بعض النماذج الجيدة من حيث أسلوب التدريس والهيئة التدريسية، إلا أن توقعاتي مقارنة بالواقع لم تكن بالقدر المأمول لأسباب، منها: اعتماد التخصص على أسلوب التدريس البحثي والتحليلي والنقاش والنقاش المضاد، إلا أن الغالب فيه كان اعتماد المحاضر على أسلوب التلقين والحفظ وعدم إتاحة المجال للنقاش، خصوصاً مع من يعارضه في آرائه، فضلاً عن اعتماد أسلوب الامتحانات التي لا تخرج عن إطار اذكر، عرف، عدد، أجب بنعم أم لا. وهذا كان يسبب ظلماً لكثير من الطلاب الذين لا يجيدون أسلوب البصم والتلقين". ويتابع: "هناك عدم الاهتمام الكافي للمدرسين في موضوع الأبحاث، حيث أن بعضهم لا يهتم بجودة البحوث، وهذا كان يظهر جلياً من خلال تقارب العلامات والتقييم بين الطالب الذي يجتهد وبين الذي يقوم بتسليم بحث مسروق أو دراسة سابقة".
بدورها تقول (ص. د): "كثيراً كانت العلاقة الشخصية بين الطلاب والأساتذة هي الطاغية والمؤثرة على تقييم الطالب، وهذا كان يسبب إحباطاً للذين لا يتمتعون بمثل هذه العلاقات. ومن أدلة ذلك: خلال امتحان نهائي كان المدرس يتجول بين الطلاب ويطلع على إجابات البعض ويبلغهم إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة. كما أن أحد المدرسين كان يخاطب أحد الطلاب أثناء النقاش بصفته الرسمية وليس كطالب أكاديمي". وتشير(ص. د) إلى أنه في كثير من المساقات كان يتم تكليف أساتذة ليسوا مؤهلين ولا يمتلكون القدر الكافي من العلم أو المعرفة المتخصصة التي تمكنهم من الإشراف على مساقات لطلاب الماجستير أو أن يتم التدريس من قبل أشخاص غير متخصصين بالأصل في موضوع المساق المطروح. كما أن سياسة المعهد اعتمدت في بعض الأحيان على المساقات الموجهة والممولة من جهات خارجية والتي كانت تتكفل بتغطية نفقات المؤتمرات وبعض التكاليف الأخرى الخاصة بتدريس المساق.
من جانبه يرى محمود الفروخ، الملتحق بالدكتوراة في الإعلام بالجامعة الأردنية أن الدراسات العليا في جامعاتنا هي عبارة عن بكالوريوس من نوع آخر، حيث لا تضيف للطالب أي تجربة عملية أو معلومات أكاديمية متخصصة وعميقة. ويقول: "غالباً ما تكمن المشكلة الأساسية في ممارسة بعض الأساتذة لأهوائهم الخاصة، بحيث يتحول الطالب من طالب للعلم إلى طالب لرضى الأستاذ، وهذا يجعل هدف الطالب العلامة والعلاقة أكثر من العلم". ويوضح: "يوجد فرق واسع بين الماجستير ودرجة الدكتوراه المتميزة بجودة البحوث، وأسلوب التدريس ونوعية الأساتذة".
أما طارق الشرطي فيعتقد أن كثيراً من الأساتذة خاصة في الدراسات الاجتماعية، لا يحبذون أو ينصحون الطلبة بإعداد رسائل نظراً لضيق وقتهم أو لا يريدون أن يتعبوا في الإشراف، فضلاً عن وجود عدد غير قليل من المحاضرين يعملون في مؤسسات المجتمع المدني، وهذا ما يضعف جودة تدريسهم أو انتمائهم للتدريس. ويطالب الشرطي بأهمية وضع استراتيجية واضحة للدراسات العليا في الجامعات الفلسطينية بهدف تطوير هذا البرنامج وإغنائه بالكفاءات والمخرجات الجيدة.
إلى ذلك، نجد (ن. ع) تقول: "إن الوقت يضيع في انتظار الطالب لتقييم الأستاذ لبحثه أو متابعة بحثه، كما أن اختيار المشرف على رسالة الماجستير يجب أن يتوافق مع المتخصص بدقة، بحيث يتوجب تعميم الموضوع على جميع الأساتذة، ومن يجد في نفسه القدرة لمساعدة الطالب يتم اعتماده لا أن يتم اختيار المشرف واللجنة بناءً على علاقات شخصية ومصالح أكاديمية". وتبين أن إمكانيات الجامعة محدودة ومقتصرة على المكتبة، ولا يوجد تعدد لوسائل تعليم مختلفة ومتطورة. وتتمنى (ن. ع) أن يتحسن واقع الدراسات العليا للوصول إلى النهوض بالواقع العلمي والبحثي والمجتمعي.
وفي السياق ذاته تذكر (خ. ط) أنه بالرغم من أن شروط الانتساب للبرنامج الذي أدرس فيه إتقان اللغة الإنجليزية، إلا أن الدراسة في معظمها باللغة العربية نظراً لقبول طلبة غير ملمين بالإنجليزية، وبالتالي تتعاطى الجامعة مع هذا الأمر لهدف مالي، خاصة في ظل وجود ما بين (25 - 30) طالب في المساق، بينما المطلوب يجب أن يكون قرابة 15 طالباً.
كذلك، يوضح علاء قرعان أن هنالك بعض التحيز وعدم الشفافية من بعض الأساتذة عبر الاهتمام بالفتيات الجميلات وإعطائهن أعلى العلامات دون وجه حق، أو يتم الاهتمام والتغطية على بعض الزملاء نظراً للعلاقات الأسرية أو الحزبية وغيرها، إلى جانب عدم اهتمام بعض المحاضرين بالأبحاث المقدمة لهم، بحيث لم يتم تقديم التغذية الراجعة أو الملاحظات حول الدراسة، وبالتالي فإن الطالب لا يستفيد ولا يحسن من أدائه.
وبشأن نوعية الطلبة يفيد حمزة أسعد أن آلية الاختيار غير شفافة، حيث تجد أن بعض المنتسبين تم قبولهم بسبب قرابة أو واسطة، وبالتالي شغلوا حيز شخص آخر أحق بالدراسة، منوهاً إلى أن عدداً كبيراً من الطلبة يرغبون بتحسين معاشهم عبر الدرجة العلمية، وبالتالي فإنهم غير مهتمين ولا يناسبون نوعية البرامج التي التحقوا بها، وهذا ما يؤدي إلى مخرجات هشة وسطحية.
وبهذا، فإن مجمل ما يطلبه الباحثون والطلبة في هذا الإطار هو أن يكون التدريس قائماً على التطبيق والنظري معاً، وأن يكون المحاضر نزيهاً وكفؤاً ومشجعاً الطلبة على إعداد رسائل، وأن يكون المنهاج حديثاً ومواكبً للتطورات، وأن يصاحب التعليم لغة أجنبية، وتوجيه الطلبة للكتابة في موضوعات متنوعة ونوعية،وضرورة الاستفادة من البحوث والرسائل في خدمة المجتمع المحلي، علاوة على وضع خطط واستراتيجيات على مستوى الوطن، لتقييم واقع ومستقبل الدراسات العليا، وذلك من خلال التشاور مع الجامعات ووزارة التعليم العالي ومؤسسات المجتمع المختلفة.