ضوء في الدَّغْل
الفكرةُ في العالم العربيِّ اليوم تبدو، في حركتها، بطيئة أكثر من سلحفاة عجوز، وثقيلة أكثر من عشرة فيَلة أسطورية. وهي بهذا تكادُ تكون ثابتة في مكانها بلا حراك رغم كل المتغيِّرات التي تحيط بها، والتي لم تؤثِّر فيها، وهذا غريب حقا، إلا بمقدار ضئيل لا يمكن أنْ يعتبر شيئا ذا بال. وبرغم السرعة الضوئية التي تتحرك بها الأفكار في العالم المعاصر في جميع مجالات الحياة والعلم والفن، إلا أنَّ أفكارنا لا تزال تسير على سرعة الجملِ العربي الأصيل، وفي أحسن الأحوال على طاقة الفحم المحروق الذي يتكاثف دخانه الأسود فيمنع عنها الرؤية ويخنقها ويخنقنا معها.
ينعكس هذا الثقل في حركة الأفكار على الزمن العربي الذي صار هو الآخر بطيء الحركة، متماثلا، حتى لكأنَّه ليلُ امرئ القيس الطويل الذي اخترق بمناداته، غضبا وتبرّمًا، صمت الصحراء الحجريّ. والزمن رغم كونه واحدا في العالم إلا أنَّ الإحساس به يختلف بحسب تطوُّر الحياة أو قابليتها للتطوُّر في مجتمع من المجتمعات. فزمن نيويورك مثلا سريع جدا في كل شيء، الأفكار هناك تبلى بسرعة، المنتجات التكنولوجية تُتجاوز بسرعة أيضا، لكنَّ الأهمَّ هو أنَّ الإنسان هناك قادر على الصراع مع الزمن، وحتى على التغلّب عليه، ببساطة، لأنه هو من جعل زمنه سريعا يوم اختار لنفسه طريق الإبداع والحرية.
لماذا ليس الحال عربيًّا كما هو في مختلف دول العالم؟؟ لماذا زمننا بطيء لدرجة تحمل نبضات قلوبنا على التباطؤ والموت نتيجة عجز الحركة؟
لعلّ الإجابة هنا تحتاج إلى وقت وكلام، وقد قيل الكثير عن سبب النكسة العربية، وتكادُ أغلب الكتابات تضع يدها على الجرح؛ وهو أنَّ العقل العربي عقل ماضويّ، وأنَّ حضور الماضي بثقله وتناقضاته في حياتنا أكبر بكثير من الحاضر بفتوحاته المختلفة. ويعود هذا الحال إلى أسباب كثيرة، منها القطيعة الطويلة التي حدثت في مختلف مجالات الإبداع، والتي يصطلح الدارسون على تسميتها بعصور الانحطاط والضعف. لكنَّ "النهضة العربية" قد انطلقت منذ عقود فدخلنا زمنيا إلى العصر الحديث، وكانتْ فيصلا بين تلك الأزمنة المتخلفة وبين زمننا اليوم. لكنْ لماذا لم نخرجْ بعد من التخلف؟
قد يكون العالم العربي يعيشُ اليوم "أزهى" عصور انحطاطه وتخلّفه، ذلك لأنَّه قديما، في عصور الضعف، ربما، لم يكن يقاس حالنا بإنجازات الأمم الأخرى، ولأنَّ العالم يومها لم يحتف ويحتفل بإنجازات كالتي ملأتْ الآفاق اليوم. وعليه حين ننظر إلى العربيّ، في اللحظة الزمنية الراهنة، في مرآة الآخر ومساهماته الحضارية سنخجل وتأكل ألسنتنا قطّة الاندهاش. ألسنتنا التي تعتبر هي الأخرى سببا في المهزلة التي نعيش. وقد يتساءل القارئ لماذا؟ والإجابة في التالي:
. تستمع إلى رئيس عربيّ فيملأ قلبك بالوهم والشعارات، وبالكذب المفضوح الذي يكذّبه الواقع والشعب والشجر والحجر وكلاب الشارع.
. تفتح قناة إعلامية عربية "محترمة" فتفتح عليك شلالا من الخطابات النارية التي تلعن العدوَّ الصهيونيّ وتعلن أننا قد انتصرنا عليه، والله يعلم أنَّ جرحنا أوسع من الثقب الأسود.
. تجلس في مقهى فتكتشف أنَّ جميع الجلوس يتكلمون في كل شيء، ويفهمون كلّ شيء، ويناقشون كل الأزمات العربية بوثوقية من يُصنع القرار في مطبخه. وجميعهم يلتقون في صفة مشتركة هي إيمانهم العميق والراسخ بنظرية المؤامرة، لدرجة تجعل من داعش صناعة أمريكية وإيرانية، رغم ما بين هاتين الأخيرتين من صراعات وعداوة بارزة.
ألا يجب بعد هذا أنْ نقطع ألسنتنا الطويلة ونرميها للقطط تقتات عليها في سبيل الله، وحين نتحوَّل إلى شعوب بكماء، قد ننتبه إلى قيمة العمل، فنشمِّر عن سواعدنا. لكنَّ كل الخوف أنْ نفتتن بلغة الإشارة ونضع لها نحوا عربيا وبلاغة، ونتحوَّل مجددا إلى خطباء يتكلمون في كل شيء بلا لسان.
سؤال أخير إلى القارئ:
أيها القارئ الكريم؛ هل خرج الإنسان العربيّ من الصحراء والبداوة لتخرج أفكاره من قوقعة السلحفاة؟؟.