كتبَ يسرائيل هريئيل في هآرتس قبل أيَّام مقالاً تحت عنوان – جِنِرَالاتٌ ديموغرافيون – ومِمَّا جاءَ:
"عشية إقامة الدَّولة وضع البروفيسور روبرتو بيكي، الذي أصبح فيما بعد مؤسِّسَ مكتب الإحصاء المركزي، توقعاً ديموغرافياً على طاولة دافيد بن غوريون. مضمونه: ليس من المُتوَقَّع وجود كتلة يهودية كبيرة - أي أغلبيَّة يهوديَّة في أرض إسرائيل - وقد انضم بيكي إلى المتشائمين من خلال توقعاته الديمغرافية؛ فمنذ العام 1900 ادَّعى المؤرخ شمعون دوفانوف أنه بعد مئة سنة أيضاً لن يكون في أرض إسرائيل أكثر من نصف مليون يهودي. وكان اقتراحه للقادة حينذاك: ركِّزوا على تحقيق حكم ذاتي يهودي في أوروبا".
يُريدُ "يسرائيل هريئيل" التَّدليل من خلالِ مقالته على أهميَّة وضرورة عدم التَّشاؤم والقلق حيال مستقبل التَّوازن الديموغرافي لصالح تحقُّق أغلبيَّة يهوديَّة في أرض إسرائيل الكاملة بما فيها يهودا والسَّامرة – حسب تعبيره – وهو ما يعني ووفقَ ما يقول في بقيَّة المقال؛ أنَّ فكرة الدَّولتين لشعبين والمدعومة بالأسانيد الدِّيموغرافيَّة لم تكن إلَّا تحت وقعِ أوهامٍ تشاؤميَّة وتوقُّعاتٍ مُتَحَفِّظَةٍ رافقت بداية انبثاق الصُّهيونيَّة وواكبَتْ بداية طلائع الهجرة وبواكير إقامة الدَّولة. لذا فهو يقول في ثنايا مقالته:
"إنَّ الصُّهيونيَّة من حيث الجوهر حركةٌ تستهدف تغيير الواقع وليس الخضوع له". ويقصدُ بطبيعة الحال الواقع الدِّيموغرافي؛ ويُرْدِفُ قائلاً:
"إنَّ موجات الهجرة الكبيرة أيضاً التي حدثت بعد قيام الدولة ما كانتْ لتُغَيِّرَ التشاؤم الديمغرافي؛ ففي العام 1987 قال البروفيسور"أرنون سوفير" لخريجي كلية الأمن القومي وللجمهور الواسع في وسائل الإعلام: «في العام 2000 لن تكون إسرائيل يهودية». وكان سوفير على مدى سنوات طويلة هو «ديمغرافي البيت» للمعهد – معهد الأمن القومي - وتأثَّرتْ بوجهات نظره أجيال من قادة الأجهزة الأمنية".
يُرْدِفُ هريئيل أيضاً: "لقد تم سؤالي في إحدى المحاضرات عن كيفية ضم يهودا والسامرة والحفاظ في نفس الوقت على أغلبية يهودية. وقد استعرضت التوقعات السَّوْداويَّة التي تبين أنَّها خاطئة، للديمغرافيين على مر الأجيال. وأضفت بأنني صهيوني أؤمن بالهجرة. نعم الهجرة أيضاً من الاتحاد السوفييتي. وكان الرَّدُ هو دهشة واستخفاف. وأنا أتذكر أقوال أحد الضباط، الذي أصبح فيما بعد من قادة الاستخبارات، وبعد ذلك كان في الخدمات العامة والحكومية. فهو ومن كان معه في قيادة الموساد قالوا بشكل حاسم إن الإيمان بالهجرة هو هذيان.
معظم من استمعوا إليهم أيدوهم، والقليلون أيدوني عندما قلت إنه إذا كان آباء الصهيونية موجهين مثلهم فقط حسب المعطيات «العقلانية» عندما كانوا يخططون فقط لقيام الدولة، الأمر الذي أثار ضجة حيث قلت إنهم قد يكونون شجعان في أرض المعركة، لكن تنقصهم الشجاعة عندما يتعلق الأمر بالصراع من أجل تحقيق هدف. كانت الصهيونية حركة غيرت الواقع، قلت لهم، وبدل الصراع من أجل التغيير أنتم على استعداد للخضوع للواقع الديمغرافي.
وبعد سنة على ذلك تم فتح أبواب الاتحاد السوفييتي. أكثر من مليون مهاجر جديد غيروا الواقع، ليس فقط الديمغرافي، حيث زادت نسبة التكاثر، الأمر الذي عكس التفاؤل والإيمان بالمستقبل. فأي من الديمغرافيين توقع كل ذلك؟"
هنا يُمْكنُ القولُ إنَّ "هَريئيل" مُحِقٌ تجاه الإشارة إلى الدَّهشة التي تسببت بها موجة الهجرة الهائلة التي حصلَتْ عشيَّة انهيار الاتِّحاد السوفييتي لليهود الرُّوس إلى إسرائيل، وما أحْدَثَتْهُ من فارقٍ نوعيٍّ تكنولوجيّ، وكميٍّ ديموغرافيّ، بالنِّسْبَةِ لمستقبل إسرائيل؛ نعم تفاجأ الدِّيموغرافيُّون بذلك، لكن لا أعتقد أنَّ الاستراتيجيِّين – في إسرائيل وأمريكا والمتعاونين معهم في المنطقة كما يزعم هريئيل - قد فاجأهم الأمر؛ لأنَّ الجهود المبذولة في سبيل تفكيك الاتِّحاد السُّوفييتي عبر سِنِيِّ الحرب الباردة – وبما في ذلك مجهود دعم الجهاد الأفغاني في أفغانستان إبَّانَ نهاية السَّبعينات من القرن الماضي – كانتْ تستَهْدِفُ فيما تستهدف فتح أبواب الهجرة أمام الجاليات اليهوديَّة إلى إسرائيل بلا قيودٍ، كتلك القيود التي كانت مفروضة على الهجرة اليهوديَّة إلى إسرائيل في ظلِّ حكومة الاتِّحاد السُّوفييتي السَّابق والحكومات الاشتراكيَّة في أوروبا الشَّرقيَّة منذ خمسينيَّات القرن الماضي والَّتي ازدادت وتيرة قيودها بعد حرب عام 67.
ثمَّ إنَّ "يسرائيل هريئيل" يغضُّ الطَرْفَ عن رُؤَى وبرامج حركة غوش إيمونيم الاستيطانيَّة التي طرحتها الحركة منذ عام 1974، وقد كانت تلك الحركة على صلةٍ وثيقة بحكومة حزب العمل حينذاك وبصفةٍ خاصَّةٍ عبر وزير دفاعها "شمعون بيرس" ومن قبله بموشيه ديَّان وإيغال ألون، وكانت رؤية الحركة تتضمَّن أنَّه وبحلول عام 2010، أيْ بعدَ أربعة عقود من ذلك التَّاريخ؛ يجب أنْ يكون عدد المستوطنين على هضاب الضِّفة الغربيَّة وفي الأغوار قد تجاوزَ أكثر من نصف مليون – نجد ذلك موثَّقاً في ثنايا وملاحق كتاب "أسيادُ البلاد.. الاستيطان في أرضِ إسرائيل" - وهذا فعلاً ما كان!! رغم أنَّ "هرئيل" يُحاول القول في مقالَتِه: إنَّ الَّذين اندفعوا لتوقيع اتِّفاق أوسلو عام 93 من السِّياسيين والأمنيين في إسرائيل إنَّما كان أحد دوافعهم هو الخشية من المساس بالأغلبيَّة اليهوديَّة للدَّولة، وقد أغفَلَ هريئيل – وكيميني صهيوني وعن قصدٍ وفي محاولةٍ للمزايدة على حكومات اليسار في إسرائيل – حقيقةَ أنَّ الجزء الأعظم من برنامج ومخطط "غوش إيمونيم" الاستيطاني قد تمَّ تجسيده فيما بعد التَّوقيع على اتِّفاق أُوسلو في العام 1993.
بالإجمال، إنَّ مثل هذه المُناقشاتِ التي تجري في إسرائيل في مختلف المستويات السِّياسيَّة والأمنيَّة والأكاديميَّة والإعلاميَّة، وفي مقَلَبَيِّ المشهد السِّياسي من يمينٍ ويسارٍ وما بينَهُما حولَ أسانيد ومبرِّرات فجوة الدِّيموغرافيا كانت على الدَّوام تتمحورُ حول أمرٍ وهدفٍ واحدٍ هو تحقيق جوهر الدَّولة ذات الأغلبيَّة اليهوديَّة، أو الدَّولة اليهوديَّة الخالصة، وفي حال كانتْ التَّكهُّنات والوقائع والمجريات تؤكِّد حقيقة الفجوة لصالح الأغلبيَّة اليهوديَّة الوافرة المضمونة ولصالِحِ تزايد فرص الهجرة المتواترة؛ فإِنَّ الأمر حينئذٍ – وكما يعبِّر عن ذلك هريئيل على سبيل المثال هنا – هو تحقيق الهدف النِّهائي والاستراتيجي، وليس مجرَّد تحقيق انتصارات في المعارك، وربَّما يكون الهدف النِّهائي حسب وجهة النَّظر تلك هو النَّفي المنهجي والفعلي لأيِّ إمكانيَّة واقعيَّة تَسْمَحُ بقيامِ دولَةٍ فلسطينيَّة، وربَّما يكون شكلاً من أشكال التَّفريغ والترانسفير، أيضاً ومرَّةً أخرى من خلال أسانيد ومبررات الدِّيموغرافيا وحسب ما تُمليه الضَّرورة، التي يفرضها مفهوم أنَّ الصهيونيَّة تستهدف تغيير الواقع وليس الخضوع له – كما يعتقد هريئيل وكثيرين غيره في إسرائيل!!