الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ضوء في الدغل... المنحى الفلسفي والاشتغال النفسي في قصص طارق لحمادي

بقلم:محمد الأمين سعيدي

2017-01-24 10:18:08 AM
ضوء في الدغل... المنحى الفلسفي والاشتغال النفسي في قصص طارق لحمادي
محمد الأمين السعدي

 

1.

صار مما يتعذّر على القارئ، في زمنٍ تخبُّ فيه الأقلام إلى الرواية، أنْ يجد قصة تليقُ بشغفه وما ينتظره من النص. وإذْ تذهب قلّة قادرة إلى الرواية بغرض استغلال المسافة القولية التي تتيحها، تظلّ الكثرة تقتحمُ هذا الباب هربا من عسر التجربة القصصية لا أكثر ولا أقلّ. وقد يتساءل القارئ كيف تكونُ القصة أصعب من الرواية؟؟لكن ليس هذا هو القصد، فكل جنس أدبيّ صعب، والمقارنة ضرب من الغباء، لكنّ القصد أنّ عسر القصة في صغر حجمها، كما أنّ عسر الرواية في طوله. وفيما يخص القصة فالرهان مستصعب، إذْ كيفَ يمكن أنْ يكونَ حدث واحد مع شخصية أو اثنين كافيا للغوص في أعماق الموضوع، ولتقديم رؤيا على سعتها يتم تأثيثها بمبررات جمالية صارمة على بناء النص، وبمبررات أكثر صرامة حين يأخذ نص على عاتقه حلم التجريب والحفر والاشتغال.

 

2.

من هذه الصعوبة التي يقتضيها المتن القصصيّ يقدّم القاص الجزائري طارق لحمادي نصوصه التي تبنى على رؤى مختلفة تبتدئ من العمل على البناء لتصل إلى التجريب بلغة واثقة الخطو، متينة البنية، على عافية مبهجة تمكِّن صاحبها من الاشتغال بأريحية واضحة على احتمالات تشكيل الجملة الواحدة، وعلى إمكانات جعلها متتالية تحقق الحدث وتنضِج السرد. ولأنّ الكلام على الكلام صعب كما أقرّ أبو حيان التوحيدي، لا يمكن لمقال أنْ يسلط الضوء على جميع الاشتغالات عند كاتب ما، ولكن بإمكانه، حين يحدّد ما يروم من اشتغالات النص، أنْ يقول الكثير من خلال وضع اليد على الجزء الذي هو أساس الكل في العمل. ولدى طارق ميلٌ واضح إلى استثمار المعرفة النفسية، لا كأفكارٍ غريبة عن النص تحوّل البطل إلى"فرويد" آخر، وهو لا يحتاج ذلك، بل كفعلٍ يحدُث، ويساهم في بناء التوتّر الدرامي الذي يتنامى شيئا فشيئا ليرسم الطريق أو أرباعه إلى مصير الشخصيات، ويحدُث هذا في متنه حين لا يقول القاص إلاّ ما ينير بعض العتمة في الحكاية، تاركا لمخيلة القارئ أنْ تفكِّر في بقية الطريق.

 

3.

تمتاز الشخصية، فيما قرأتُ من نصوصه، بالحركية والفعل، لا بالكلام والثرثرة. يعود ذلك إلى اهتمامٍ واضح من القاص ببناء الجانب النفسيّ للشخصية باعتباره المسلك الأوّل لجعل القارئ يؤمن أنّ البطل حقيقي. وهنا مأزق بعض القصص والروايات حيث البطل هو مجرّد اسم يُنسبُ إليه كلام المبدع بشكلٍ مفضوح ومضحك. لعلّ هذا ما انتبه إليه طارق، فتجنّبه في كتابة تحيي الشخصية بالوصف المختزل والكافي ليتمثّل المتلقي تفكيرها، بعض رؤيتها إلى العالم، بعض مشاعرها أيضا. ثم يتمّ ما تبقى من ملامحها بالقص وتثوير الحدث، وبالبياض؛ ذاك الصمتُ الذي لا يقول أي شيء ليقول كلّ شيء وهو يستفز القارئ ليشارك في النص الذي يتلاعب، يشاكس، يوضح بالغموض، يبين بالإشارة، وينبئ من بدايته:لستُ نصًّا يقول كلّ شيء فشمّرْ عن ساعديكَ واقرأ.

 

4.

تمثيلا لهذا الاشتغال، في قصته "الطُّعمُ"، بنى الجانب النفسي للشخصية على الواقع والهرب منه إلى الصيد. فواقع البطل لا يتناسب مع مزاجيته ورفضه الحادّ للروتين وحبّه للعمل الحرّ بعيدا عن الإرغامات لدى مؤسسات الدّولة، ومع هذا يهربُ إلى الصيد لتبدأ رحلة بحرية تتوضح من خلالها كثير من مشاكل البطل النفسية حيثُ يصرّ على أنْ يعود بصيد السمكة المستعصية، يتخيّل أنّه فعل، وبرغم صبره وشغفه كان أنْ أكلت السمكة طعمه ومنحته اللاشيء الكبير وسخرية الأصدقاء. يظهر الاشتغال النفسيّ هنا بعد حفر، فالواقع الذي قتل الشخصية بما لا تحب، وحرمها دوما من جوّ كريم في عمل لا يحوّل صاحبه إلى بغلٍ أو عبد، هو نفسه الذي أحاطها بأصدقاءَ حوّلوا هواية الصيد إلى هوس رهيب بالظفر، لا لإرضاء الذات، بل لإلقام كل فم حجرا يخرسه. وإذ يظهر التناص العكسي، والمقصود، مع عجوز همنغواي في هذه القصة، فلغرض ساخر يعمّق أزمة البطل النفسية:فالعجوز اصطاد وعاد بهيكل مهما كان سببا للسخرية فهو برهان على الصيد، بينما هذا الشاب لا هو عاد بالسمكة ولا بهيكلها ولا حتى بطعمه الذي أشبعها به فأشبعته بالفرار.

5.

في هذه القصة يتبدى المنحى الفلسفي، وهو يحفر بأدوات نفسية ليناقش أيضا ما يرى الإنسان من العالم، وما يراه منه وفق ما يريد الآخرون، وما يفقده منه دون اختيار ذاتي. والوجع هنا حين يرى البطل إلى نفسه فيعرف أنه يقدر، ثم إلى غيره ينظرون إليه بعين ساخرة، وهم لا يفعلون إلا لأنّ الواقع بما هو نسق ثقافيّ علّمهم ألاّ يؤمنوا مطلقا بالآخر وما يستطيع لأنهم لم يؤمنوا يوما بذواتهم. لكنّ الوصول إلى هذا المنحى يقتضي كثيرا من التركيز، وأيضا الانتباه إلى الإشارات الخبيئة في النص، وإلى الربط بين وصف الشخصية وما يحيط بها وبين تنامي الحدث وما يترتب عنه.

 

6.

للتمثيل أيضا على ما ذكرته الآن؛ تكون قصته"حادثة لوحة"ذات تعبير عن طريقة كتابته:الخبث الفني. إذ يشعر الدارس أن شيئا ما في هذا النص يتلاعب بالقارئ، إنه السرد حين يرتدي عباءة الخبث، حين يهول عليك وهو يوجهك إلى موضوع معين بينما يريد شيئا آخر. شيئا يشبه عملية تحويل الانتباه التي يقوم بها لاعب الخفة وهو يشغلك باليد اليسرى مثلا ليخرج ما يريد باليمنى. بدأ التلاعب بالقارئ من خط الدم، وانتهى إلى الحريق، لكن هل يحوّل طارق انتباهنا عن الحريق بسبب الشرارة ليشعل المتخيل بالحريق بسبب من خروج القطار من سكته المرسومة ومن لوحته المحددة بالإطار؟ هنا يتلاعب بالقارئ ليزرع فيه الشك اللازم ثم اليقين الغبي ليخلص إلى اتهام البطل بالوهم أو الجنون. لكن يبدو أن التفسير الذي يوهم به النص؛ تفسير الزوج(أن القطار خرج من اللوحة)، تفسير الزوجة الذي يكذّب هذا، تفسيرهما معا كذلك، هو مجرد محاولة لإخفاء الموضوع الحقيقي:انعكاس العالم وما فيه على مرايا داخل الإنسان، فالبطل يرى أن الحريق سببه خروج القطار الخارج عن سكته من اللوحة إلى البيت الصغير بما هو تجسيد للعالم ورامز إليه. ويترتب عن هذا القول إن العالم ليس ما هو موجود بالضرورة، بل هو ما نراه ونحسُّه. ولهذا مهما أكدت الزوجة، أو الناس، أو الشرطة بالدليل القاطع أن السبب شرارة كهرباء أو شيء واقعي، سيظل البطل يرى أن القطار هو السبب، أن الفن هو الجاني هنا لأنه، وهو يتجسد لوحة في نفسية البطل/المتلقي كان يسحبه من الواقع إلى متعة الرسم. هل خرج القطار من اللوحة إذن!! لم يفعل، الزوجة محقة هنا، لكن ما لا تعرفه هو أن زوجها دخل إلى اللوحة، وهذا ما لن تستطيع أمامه حيلة:البطل سجين الفن، ولهذا صار واقع اللوحة واقعا في حياته. من قال إن القطار في اللوحة ليس حقيقيا أو أن حريق الكهرباء أكثر واقعية من حريق القطار هو شخص لا يعرف خطورة الرسم والإبداع. وهنا يضرب المنحى الفلسفي، المختبئ خلف القص والحدث والشخصيات، بعمق ليقول أكثر مما يبدو على ظاهر الكلام.

 

7.

من يقرأ نصوص طارق لحمادي؟ من قال إنّ القصة تحتضر؟ كيف يكون النص وفيًّا لجمالياته؟ ويكون التلقي خائنا حين يقع في التنكّر المدروس لهذا الفن الذي صار نطاق انتشاره أقلّ مما يستحق. أترك هذه الإجابات للقارئ، وأكتفي أخيرا بالإشارة إلى أنّ هذه القراءة قد حاولت أنْ تضيء قليلا من الاشتغال الذي تضج به نصوص طارق، وأنْ تفتح الباب للدارس والناقد ليرى بعين أخرى إلى هذا الاشتغال.