كان سلامة شاباً خارق الذكاء، شاهد بنفسه مقتل والده بيد اليهود وهو في الخامسة عشرة من عمره، وعاش مثل آلاف الفلسطينيين في مخيم بائس يفتقر إلى المياه والكهرباء، وفي نابلس أكمل تعليمه وكان دائماً من المتفوقين، وبعدما حصل على الثانوية العامة بتفوق، حصل على منحة للدراسة بالجامعة الأميركية في بيروت، التي كانت مجتمعاً لكبار المثقفين الفلسطينيين، وتخرج في الجامعة مهندساً ليلتقي بياسر عرفات الذي كان أسس منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد هذا اللقاء تبدلت حياته كلها، إذ شغل منصب قائد القوة 17، ثم رئيس المخابرات الفلسطينية «رصد» ورئيس العمليات في منظمة أيلول الأسود التي دوّخت إسرائيل بعملياتها الفدائية المذهلة.
استغل سلامة ذكاءه الشديد في تعقّب الخونة والجواسيس الذين يُزرعون بين صفوف المقاومة، وتمكّن من كشف عشرين منهم خلال فترة وجيزة، وحصل على دورات تدريبية على أيدي رجال المخابرات المصرية، وعشق مطاردة عملاء الموساد أينما كانوا، وأفلت مرات ومرات من محاولات فاشلة لاغتياله، وبعدما جاءه البلاغ عن وجود طبيبة عربية متطوّعة تعمل لصالح الموساد في بيروت، كانت أمامه بعد ثلاثة أيام قائمة طويلة تضم أسماء 37 طبيبة، أربعة منهن فحسب حصلن على شهاداتهن العلمية من جامعات النمسا، وكن جميعاً آنسات إحداهن بالطبع كانت أمينة داود المفتي.
الرسالة الأخيرة
والى أن يصل التقرير الحاسم من أوروبا، أمر سلامة بوضع الممرضات الأربع تحت المراقبة الصارمة طوال الأربع والعشرين ساعة، كان السباق محموماً للوصول إلى الحقيقة بأسرع ما يمكن، وبينما الطقس مشحون بالشكوك والترقب، أحست أمينة بعيني الجاسوسة المدربة، بأن هناك عيوناً ترصدها، ولا تترك لها مساحة من الحرية لتتحرك بيسر كما اعتادت دائماً، وأول ما فكرت فيه هو التخلص من جهاز اللاسلكي، دليل الإدانة الذي سيقدمها إلى حبل المشنقة، فبثت رسالتها الأخيرة إلى الموساد: (آر. كيو. أر. هناك من يراقبني ليل نهار منذ الأمس.. أنا خائفة ومرتبكة.. سأموت رعباً.. أفيدوني.. شالوم)، وبعد أقل من نصف الساعة جاءها الرد يقول: (ضعي الجهاز بسلة قمامة الشقة العلوية.. احرقي الشفرة.. غادري بيروت بهدوء إلى دمشق بطريق البر.. ستجدين رسالة بمقهى الشام)، تنفست أمينة الصعداء، وشرعت فوراً في تنفيذ أوامر رؤسائها.
هروب فاشل
حملت أمينة حقيبة يدها الصغيرة وغادرت شقتها، لتدور بعدها في شوارع بيروت أشرس عملية هروب ومطاردة بين الجاسوسة الخائفة ومطارديها، وفي موقف السيارات المتجهة إلى دمشق اعتقدت بأنها أفلتت من المراقبة، حتى إذا ما صعدت إلى الباص واطمأنت في مقعدها، فوجئت برجلي أمن يقفان إلى جوارها، فألجمها الخوف وانخرست، واعتقدت بأنها النهاية الحتمية لمشوار خيانتها، فقررت بألا تموت على أيدي الفلسطينيين، وفي تصرّف لاشعوري مدت أصابعها تبحث عن كبسولة سم السيانيد بين خصلات شعرها، لكن أيدي رجلي الأمن كانت الأسرع، إذ انقضت عليها كما تنقض الكوبرا على فريستها، واقتيدت إلى سيارة بيجو استيشن مفتوحة الأبواب كانت تنتظر خلف الباص، يقف إلى جوارها رجلان آخران جامدا الملامح، وقبلما تبلغ أمينة البيجو فشلت ساقاها في حملها، فاضطر الرجلان إلى رفعها عن الأرض رفعاً، وألقيا بها إلى داخل السيارة التي انطلقت كالريح إلى حي الفكهاني، تسبقها سيارة أودي - 80 - إل إس تقل أربعة رجال مدججين بالسلاح.
أمام أحد المباني بالقرب من المدينة الرياضية، سحب الرجال العميلة المغماة إلى الداخل، حيث أودعت في غرفة ضيّقة تحت الأرض، تكبِّل يديها من الخلف سلسلة حديدية طويلة ربطت إلى الحائط. لم يكن لدى المخابرات الفلسطينية، حتى وهم يراقبونها، دليل واحد ضدها، فالتقرير لم يصل بعد من أوروبا ليؤكد براءتها أو تورّطها، لكن حينما أمسك رجال الأمن بها كانت ملامحها كلها تنطق بالخوف وتضج بالرعب، ولأنهم اعتادوا تلك الملامح التي ترتسم عادة على وجوه الخونة، أيقنوا بأن الأمر خطير جدًا، وأن الطبيبة المتطوّعة متورّطة في جريمة كبرى، وتحولت شكوك رجال الأمن الى يقين مؤكد بعدما تعرضت المادة السائلة بالكبسولة للتحليل، واتضح أنها سم السيانيد الذي تكفي نقطة منه لقتل فيل بالغ.
كان لا بد من ترك أمينة هكذا لأيام عدة من دون استجواب، حتى تنهار إرادتها إلى الحضيض من ناحية، ولمحاولة امتلاك أدلة مادية من ناحية أخرى، ثم قام فريق متخصص بتفتيش شقتها تفتيشاً غاية في الدقة، ولمرات عدة فشل في العثور على دليل يدينها، فالعميلة المدرّبة وعلى رغم خوفها الشديد، وجدت أمامها الفرصة الطويلة لإزالة أي آثار أو أدلة قد تقودها إلى الموت، ولم تترك خلفها سوى المصحف الشريف وقد انتزعت من منتصفه صفحات عدة، هي في مجملها كل سورة «بني إسرائيل»، وصفحة ونصف الصفحة من سورة «الكهف»، وكان هذا الأمر يمثل لغزّا محيراً لرجال «رصد».
كان جهاز الأمن والمخابرات «رصد» يعمل في تلك الفترة تحت قيادة أبو إياد «صلاح خلف»، الأب الروحي للمخابرات الفلسطينية ولمنظمة أيلول الأسود، برئاسة علي حسن سلامة رئيس العمليات والدينامو المحرك والعبقري الفذ، ويعد الجهاز أكثر العناصر المكونة سرية داخل منظمة التحرير الفلسطينية، فهو جهاز الاستخبارات الأولية وعمليات مكافحة الجاسوسية، وفيه وحدة سرية للعمليات الخاصة، وله مكاتب في كل من لبنان ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية والكويت وسورية، ويصعب تقدير عدد أعضائه على وجه الدقة. كان أبو إياد معلم الجواسيس الأول في منظمة التحرير الفلسطينية، والمسؤول عن أمنها وجهازها السري، وما إن وُضع أمامه تقرير كامل عن أمينة المفتي، قال لسلامة: يجب ألا نعاقب امرأة عربية من دون أدلة قطعية قوية تؤكد إدانتها، فلننتظر تقرير رجالنا في أوروبا، وحتى يصل التقرير فلا عقاب ولا استجواب.
كان رجال المخابرات الفلسطينية في أوروبا يلهثون خلف الشاب الفلسطيني العابث، يرافقهم الشاب الآخر صاحب البلاغ، والذي استقدموه من فرانكفورت رأساً إلى فيينا، فهو الوحيد الذي يمكنه التعرف إليه بسهولة. هكذا جابوا شوارع فيينا وحدائقها ومواخيرها من دون جدوى، وكأنما انشقت الأرض وابتلعته، ولم يكن أمام الرجال إلا طريقة واحدة - غاية في الخطورة - لاستجلاء الحقيقة من مصادرها الرسمية، وهي البحث عن سجلات مكتب الزواج من أجانب، وكان الخوف كل الخوف من لفت انتباه رجال الموساد في النمسا إلى ما ينقبون عنه، لذلك كانت عملية البحث تتم تحت ستار كثيف من السرية والتكتّم، وبواسطة خطاب مزوّر صادر عن السفارة الأردنية في فيينا، يخاطب إدارة مكتب الزواج من أجانب، أمكن الوصول إلى عنوان شقة أمينة وحقيقة الزواج المحرم. في الحال، طار أحد الضباط إلى بيروت يحمل صورة رسمية من عقد الزواج، في الوقت ذاته الذي اقتحم فيها رجال «رصد» شقة أمينة في فيينا، حيث عثروا على أجندة متوسطة الحجم، سجلت فيها مذكراتها وتفاصيل عملياتها في بيروت قبل رحلتها التدريبية الأولى الى إسرائيل.
السقوط
أخيرا انكشف أمر أمينة، من دون أن يلاحظ رجال الموساد المنتشرون في النمسا أي شيء، أو يخطر ببالهم أن رجالاً يفوقونهم ذكاء ينقبون عن ماض غامض لعميلتهم المدرّبة. تجمعت كل الأدلة على مكتب أبو إياد الداهية، ولم يكن أمامه سوى محاصرة أمينة والسيطرة عليها، لتكشف النقاب عما أبلغته للموساد، ودورها الحقيقي في ترصّد حركة المقاومة، خصوصا بعد فشل عمليات فدائية عدة كان وراءها جاسوس خفي، وأيضاً لترشد عن بقية أعضاء شبكتها في بيروت أو خارجها.
كانت هناك خطط عدة لاستجواب الخونة والجواسيس يتّبعها رجال المخابرات الفلسطينية، أما والحالة هنا لامرأة عربية فالوضع يختلف، إنها إحدى الحالات النادرة التي تواجه أبو إياد ورجاله، لذلك اقترح علي حسن سلامة الاعتماد على خطة جديدة تناسب الحالة، تقوم على إيهامها بأن زوجها موشيه كان أسيراً لدى السوريين، وأُطلق سراحه منذ أيام ضمن فريق من الأسرى في عملية مبادلة نشرت عنها الصحف، وكان الغرض من ذلك كله إشعار الجاسوسة بعقدة الذنب، لتحسّ بالندم الشديد على ما ارتكبته فتعترف بلا إكراه أو تعذيب، وعلى ذلك سربوا إليها إحدى الصحف اليومية وقد تصدرت صفحتها الأولى صورة زوجها الأسير وسط الكثير من زملائه، قبلما يغادرون سورية إلى إسرائيل برفقة رجال الصليب الأحمر، كانت هناك بالطبع نسخة وحيدة لتلك الصحيفة طبعت خصيصاً للمهمة المحددة. وفي تدبير متفق عليه، دخل الحارس يقدم إليها طعام الإفطار وفي يده نسخة من تلك الصحيفة، شاهدت صورة موشيه في الصفحة الأولى، توسلت إلى الحارس أن يقرأ لها المكتوب، فرفض ونهرها، لكنها زادت توسّلاتها فوضع الصحيفة على الأرض، وكانت يداها مربوطتين للحائط بالسلاسل، لكنها تمكنت من قراءة الخبر، موشيه إذن حي، وعاد لإسرائيل، ألجمتها المفاجأة، غمرتها مشاعر الفرح مع الندم، كادت أن تصرخ، وصرخت بالفعل، فقدت توازنها، وتناست الآلام المبرحة التي تسبّبها لها القيود الحديدية في الزنزانة المظلمة.. سيطرت عليها مشاعر مختلطة كادت تفتك بها، فكانت تضرب برأسها في الحائط، وتصرخ .. وتنادي موشيه أن يأتيها لينقذها.
في 8 سبتمبر (أيلول) 1975، وبعد تسعة أيام من اعتقالها، اقتيدت أمينة المفتي إلى مكتب ضابط مخابرات فلسطيني يدعى «أبو داود»، وبدأ باستجوابها متّبعّا أسلوبًا هادئًا، وواجهها بمذكراتها التي كتبتها بخط يدها وخبأتها في شقتها في فيينا، فعللت ذلك بأنها مريضة بالتوهّم وبأحلام اليقظة، وأنكرت كل ماهو منسوب إليها، وكانت إجاباتها مرتبة منسقة خالية من أي تناقض حسبما تدربت على ذلك، وبدت ثابتة تمامًا أثناء التحقيق معها. كان مطلوبًا من أبو داود الإسراع بأخذ اعترافاتها قبل أن يهرب أعضاء شبكتها، واستمرت أول جلسة تحقيق معها 18 ساعة متصلة من دون أن تبدي أي ضعف أو انهيار، وكانت كل أسئلة المحقق لها إجابة منطقية عندها، ما عدا شيئا واحدا، إنه سم السيانيد، واستفادت من دراستها للطب النفسي، فبررت وجوده معها بأنها مريضة بمرض الجنون الدوري الذي يدفعها للتفكير في الانتحار(!!)، لكن لا يغيب عن رجال المخابرات أن هذا النوع من السم غير موجود في الأسواق، ويستخدمه رجال المخابرات فحسب للتخلص من ضحاياهم، وبالتالي كان وجوده معها قرينة مؤكدة أنها عميلة مخابراتية، وأمام نفيها لكل شيء تخلى أبو داود عن أسلوبه الهادئ، وقرر أن يتحول إلى أسلوب القهر والتعذيب، وأناب عنه زميله «أبوالهول» في مواصلة استجوابها.
كانت أمينة تعلم أن أدلة تورّطها في الخيانة هشة جدا، وكانت تعد نفسها للاستجوابات التالية، لكن المفاجأة التي لم يتوقعها أحد هي أن السلطات اللبنانية تدخلت للإفراج عنها لدى الفلسطينيين، لتقوم هي بالتحقيق معها. رأى الفلسطينيون أن يسلموها للسلطات اللبنانية كي لا تزداد الخلافات حدة، في وقت كانت الحرب الأهلية بدأت تستعر نيرانها. رأت السلطات اللبنانية أنها بريئة، وأن الشكوك التي أحاطت بها ظالمة، وهي طبيبة عربية مخلصة لوطنها(!!)، وخيروها بين البقاء في بيروت أو الرحيل عن لبنان.
كهف السعرانة
في أعقاب ذلك، قام أبو إياد بزيارة منزلية للشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني، وقال له إن التعاون الأمني بين المنظّمة والسلطات اللبنانية أمر مطلوب، لأن في لبنان طوابير من جواسيس الموساد يجوبون فيها شرقا وغربا، وطلب منه أن تبقى أمينة في حوزتهم لثلاثة أيام ليتمكنوا من كشف شبكتها. وافق تقي الدين على مطلب أبو إياد وأمر باعتقال أمينة مرة ثانية والبحث في أمر العملاء الآخرين.
عادت أمينة مرة أخرى الى زنزانتها تحت الأرض مقيّدة بالسلاسل الغليظة، وطرح رجال المخابرات الفلسطينيون فكرة نقلها الى مكان آخر تحسبًا لأن تعود السلطات اللبنانية بطلبها، أو يقوم الموساد بعملية كوماندوس لخطفها، أو تفجر المكان لسد الطريق على اعترافاتها، لكن صلاح خلف «أبو إياد» رأى أن تُنقل بأسلوب آخر، لأن نقلها الى مكان جديد موحش سيشعرها بالخوف والرهبة ويجبرها على الاعتراف. استقر الرأي على نقلها الى كهف السعرانة في الجنوب اللبناني، بالقرب من شاطىء البحر المتوسط، حيث توجد معسكرات الفدائيين الفلسطينيين بالقرب منه.
وسط حراسة مشددة، نُقلت أمينة في سيارة عسكرية وهي مغماة الى منطقة الكهف المذكور، وظلت السيارة تسير بها قرابة ساعتين، وبعدها اصطحبتها أيادٍ خشنة في طريق صاعد وسط الصخور استغرق حوالي ساعتين أيضًا، ثم رفعوا الغمامة من على عينيها، فرأت المكان الموحش المرعب الذي نقلت إليه، ولم تعرف أين هي بالضبط، إنها على مشارف مغارة لكن لا تعرف في أي أرض تقف، ثم اقتيدت الى مكان شبه مظلم، روّعها ما رأت فيه، فلقد رأت فتاة في مثل سنها مربوطة من قدميها إلى السقف والدماء تسيل من كل جزء من جسدها، كانت جائعة وعطشانة تحلم بكسرة خبز سوداء وشربة ماء ولو من مياه الصرف، ورأت رجلا صارما يطلب من جنوده أن يربطوا يديها ورجليها من خلف، ويعلقوها حتى يجيء أبو الهول.
تعرضت أمينة لأساليب تعذيب نفسية شديدة للغاية، إلى جانب التعذيب البدني، وقام رجال المقاومة بقتل الفتاة التي كانت معلقة بجوارها رمياً بالرصاص على مرأى منها، واتضح بعد ذلك أنها تمثيلية أعدّت باتقان لبث الرعب داخل أمينة فتنهار وتعترف، وأن الفتاة المعلقة كانت صديقة لرجال المقاومة، وقامت بأداء دورها بكل اتقان على رغم أنها فرنسية الجنسية، وكان من نتائج تلك التمثيلية المحبوكة أن تعالى صراخ أمينة تطلب أن يكف الجنود عن ضربها بالسياط ويخرجوها لأنها ستعترف بكل ما عندها.
أمام أبوالهول
اقتيدت أمينة للاستجواب في مكان خال في الجبل، حتى يبدو أنه خال من أجهزة تنصّت، لكنه في الحقيقة كان مجهزا بدائرة تسجيل تعمل ببطارية سيارة جيب تقف على بعد عشرات الأمتار. تولى أحد الضباط التابعين للعقيد أبوالهول أمر استجوابها فسألها: من هو رئيسك المباشر في الموساد؟ لكنها أجابت: سأموت عطشا.. اسقني، لكنها قبل أن تكمل جملتها كان رد الضابط إشارة بإصبعه الى أحد الجنود ليهوى سوط من نار على ظهرها، فأجابت على الفور: اسمه اشيتوف، فسألها: أين جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة؟ أجابت وهي تنظر الى الكرباج برعب: أمروني أن أضعه في صندوق قمامة أعلى شقتي، وأن أحرق أوراق الشفرة التي كانت بالمصحف. زاد الضابط المحقق جرعة التعذيب والضغط النفسي عليها كي لا يعطيها فرصة للتفكير والكذب، وأوحى لها أن موشيه كان رجل مخابرات إسرائيليًا تزوجها لتجنيدها وأنه لم يكن يريد منها سوى ذلك، فتوالت اعترافاتها كالسيل، كي لا يتعصب وينفذ تهديده بقتلها بالرصاص، فاعترفت على كل شركائها في لبنان، بمن فيهم مدير السنترال الذي فتح لها الغرفة السرية للتنصت على مكالمات رجال المقاومة. بعد ذلك حضر العقيد أبوالهول بنفسه بوجهه العابس وملامحه الجامدة، وشرع في توبيخ الضباط والجنود الذين لم يعذبوها بما فيه الكفاية، ولامهم أشد اللوم لأن جسدها لا ينزف كله، فإذا ما راحت في شبه غيبوبة من الرعب والخوف وتأكد من انهيار مقاومتها تماما، أخذها ليستجوبها ثانيةً بنفسه، وأمام العقيد أبوالهول، أجابت أمينة عن كل أسئلته، واعترفت بكل شيء، وقصت قصتها كاملة منذ ذهابها الى النمسا وزواجها بموشيه اليهودي واعتناقها لليهودية ثم هجرتها لإسرائيل وعملها مع الموساد.
بعد انتهاء التحقيق معها واستيفائه، أُرسِل الملف بالكامل الى أبو إياد ثم ياسر عرفات، وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي قُبض على مدير السنترال مارون الحايك، ومانويل عساف، وخديجة زهران، لكن عساف ألقى بنفسه من الطابق الخامس ليلقى مصيره منتحرا، في حين استسلم الحايك وخديجة لرجال المخابرات الفلسطينية، واقتيدوا إلى حيث ترقد أمينة في كهف السعرانة، وعلِّقا أمامها، والسياط تلهب ظهريهما، واعترفا تفصيليا بكل ما فعلاه، وبعد انتهاء التحقيق معهما سلِّما للسلطات اللبنانية لمحاكمتهما.
أما أمينة فقد امتنع الفلسطينيون عن تسليمها للسلطات اللبنانية، ولم يستجيبوا لضغوط وزير الداخلية بتسليمها. تغاضى الوزير عن ذلك، وانكمشت أمينة في محبسها مكبلة بالحديد تنتظر الموت بين لحظة وأخرى، وخضعت لاستجوابات تالية عدة للكشف عن المعلومات التي أدلت بها للموساد لتلافي أي خطر يحيق برجال المقاومة، وليقوموا بتعديل خططهم وتحركاتهم ومخازنهم وعملياتهم التي انكشفت، ويبدو أن اعترافاتها لم تكن كاملة، فقد أخفت الكثير عنهم، وذلك حسبما اعترفت بعد ذلك في مذكراتها التي نشرتها في إسرائيل في أكثر من 600 صفحة.
نشرت الصحف اللبنانية خبر القبض على أمينة وأفراد شبكتها، فارتجت كل أجهزة الموساد، وجرت اجتماعات غير عادية لكبار قادتها، فلا بد من عمل المستحيل لاستعادة عميلتهم الأسطورية، وإلا فإن جواسيسهم في لبنان سيقعون أو سيهربون خوفا وهلعًا. على جانب آخر، أرجأ ياسر عرفات تقرير مصير أمينة، وعارض رأي علي حسن سلامة الذي طلب سرعة إعدامها، فقد كان عرفات يرى فيها فرصة لاستعادة عدد من رجال المقاومة الموجودين في سجون إسرائيل.
لم تضع أمينة وقتها في السجن هباءً، وراحت تنسج شباكها على واحد من حراسها ويدعى حسن الغزاوي، فأقنعته بأن الفلسطينيين فعلوا بها ذلك نكاية في عمِّها الذي يشغل منصبا كبيرا في البلاط الملكي الأردني، لأنهم تصوروا أنه أحد المحرضين على مذابح أيلول الأسود، فتعاطف الرجل معها. أجادت أمينة لعبة السيطرة عليه، لدرجة أنه أصبح يحلم بالذهاب إلى إسرائيل معها، وبدأ يستجيب لأفكارها في إمكان تهريبها وهروبهما سويا عبر الحدود، فكانت بذلك أول عميلة للموساد تجنّد حارسها. لكن حلمهما خاب عندما أفضى الجندي بسره إلى أحد زملائه في المخيم، فروقب وضُبط وهو يحاول إدخال سترة عسكرية لأمينة كي ترتديها في رحلة الهروب!، وانتهى حلمه بإعدامه رمياً بالرصاص في أكتوبر (تشرين الاول) 1976، وضوعفت القيود الحديدية بيدي أمينة ورجليها، وشُدت مصلوبة إلى الحائط، وقلِّل المنصرف لها من الطعام والشراب، حتى تقيحت أطرافها وشحب جسدها، ومرت خمس سنوات وهي بتلك الحالة، حتى باتت لا تحلم إلا بالموت ليريحها من هذا العذاب القاسي جدا.
مبادلة بالأبطال
كانت منظمة الصليب الأحمر تكثف من اتصالاتها بالجانب الفلسطيني سعيا وراء مبادلة أمينة، لكن العرض الإسرائيلي كان هزيلا، فقد طلبوا مبادلتها بفلسطيني واحد شريطة ألا يكون متهما بقتل إسرائيليين، فرفض عرفات واشترط لمبادلتها الإفراج عن اثنين من أشهر الفدائيين الفلسطينيين، وهما محمد مهدي بسيسو المحكوم عليه بالمؤبد في إسرائيل بسبب قيامه بعملية فدائية بواسطة زورق عام 1971 أسفرت عن مقتل وإصابة عدد كبير من الإسرائيليين، ووليم نصار المحكوم عليه بالمؤبد أيضا لقتله ثلاثة إسرائيليين عام 1968 بالقدس.
قوبل الرد الفلسطيني بتعنّت، وقال ممثل الصليب الأحمر لياسر عرفات إنها لا تساوي شيئا عندهم، فهي مصنفة على أنها خائنة لوطنها ودينها وأهلها، فكان رد عرفات أن لا حل أمامه سوى الاستجابة للضغوط وإعدامها أمام شاشة التلفزيون لتكون عبرة لكل عملاء إسرائيل، فانزعج إسحاق حوفي من هذا الرد، لأنه يصيب كل عملاء الموساد في الدول العربية بالهلع، وقد يتسبب ذلك في تعطيل شبكاته التي أنفقوا عليها ملايين الدولارات، ولم يجد بدًّا من الاستجابة لطلب الفلسطينيين، على أن يترك لمنظمة الصليب الأحمر اختيار البلد الذي تتم المبادلة على أرضه وتحت حمايتها.
قامت منظمة الصليب الأحمر بتنشيط اتصالاتها بعدد من الدول لكي تتم عملية المبادلة على أرضها، فرفضت حكومات فرنسا وإيطاليا واليونان وبلغاريا، بينما وافقت حكومات تركيا ورومانيا وقبرص على تأمين الحماية للطرفين فوق أراضيها، ووافق الطرفان على قبرص، وأعلن وزير الداخلية القبرصي أن عملية المبادلة حدّدت في 13فبراير (شباط) 1980 على أرض مطار لارناكا الدولي، وتقرر إغلاق المطار أمام الملاحة الدولية في هذا اليوم بدءاً من الساعة 14:00 حتى الساعة 20:50، وظلت الأعصاب متوترة مشدودة منذ تقرر المكان والزمان.
قبل الموعد بعشرة أيام، زار أمينة في السجن ضابط من قيادة المنظمة، وأمر بفك قيودها، وتقديم الطعام الشهي لها لتستعيد قوامها، وأعطاها محاضرة بليغة في القيم، وشرح لها حجم جريمتها في حق وطنها ودينها وأهلها، وقال لها إنها مسؤولة عن آلاف الأيتام ومئات الأرامل، وكم من بيوت خربت بسببها، وكم من دماء طاهرة سالت بسبب خيانتها، فكانت تبكي، ولا أحد يعلم أهو بكاء الفرح أم بكاء الندم، لكنها تعترف في مذكراتها بأن كلمات الضابط كانت أقسى من رصاصات مدفع رشاش تخترق جسدها.
في صباح 9 فبراير (شباط)، نقلت أمينة سرا إلى معسكر جنوب صيدا، ونقلت مساءً بسرية تامة إلى بيروت، وسط طابور من سيارات الحراسة المسلحة، حيث أودعت إحدى الغرف في مقر المنظمة في بيروت، بعدما قضت في كهف السعرانة 1561 يوما طبقا لحساباتها التي نشرت في مذكراتها، وفي مقر المنظمة رافقتها فتاتان، ونامتا معها، لكنها لم تنم ليلتها، فهي لو سافرت الى إسرائيل لن يُسمح لها بمغادرتها، وستعيش باقي عمرها فيها، وتذكرت لحظتها أمها وأسرتها، فانتفضت من فراشها تصرخ وتبكي: لا أريد العودة الى إسرائيل.. اتركوني هنا، اعدموني هنا، أعيدوني لسجن كهف السعرانة، أكره إسرائيل.. أكرهها، كانت في قمة ندمها، وتوسلت لهم أن يعدموها، أو يتركوها بقية حياتها في السجن مكبلة بالحديد لكن لا يتركوها تعود لإسرائيل، فكان رد الضابط أنهم سيبادلون خائنة باثنين من الأبطال، ثم دخل طبيب ليحقنها بمخدر جعلها تروح في نوم عميق.
في مساء 13 فبراير (شباط) 1980، اقتيدت أمينة وسط حراسة مشددة إلى مطار بيروت، وركبت طائرة خطوط الشرق الأوسط وسط عدد من الضباط والجنود الفلسطينيين وممثلي الصليب الأحمر، واتجهت الطائرة إلى أنقرة، خشية اعتراضها من سلاح الجو الإسرائيلي، ومن أنقرة عادت الطائرة إلى قبرص، داخل الغلاف الجوي اليوناني.
النهـاية
كانت قبرص في هذا اليوم تعيش يوما عصيبا لم تر مثله، حيث شهدت استنفاراً أمنيا ًغير مسبوق، وامتلأت شوارعها بالسيارات المصفّحة، واعتلت القناصة الأسطح، وأحاطت المدرعات بمطار لارناكا، ولما هبطت الطائرة اتجهت إلى حظيرة خاصة تحيط بها أرتال من المدرعات، وحبس الجميع أنفاسه لحين هبوط طائرة العال الإسرائيلية، ولما حانت لحظة إخراج أمينة تمنعت بشدة، فحملها ضابط على أكتافه وأودعها مدرعة قبرصية أقلّتها الى طائرة العال في اللحظة نفسها التي كانت مدرعة أخرى تقل البطلين الفلسطينيين.
استغرقت عملية المبادلة حوالى 43 دقيقة حبس فيها الكل أنفاسه، راحت خائنة، وعاد بطلان، وكان ياسر عرفات في شرف استقبالهما. أما أمينة فقد انتهت بها الحال بالعيش أشهر عدة في مصحة نفسية، ثم انقطعت أخبارها بعد ذلك، وتعددت روايات كثيرة حول مصيرها، فهناك من يقول إنها قامت بعمل جراحة لتغيير ملامحها وهاجرت الى الولايات المتحدة، وهناك مصادر تقول إنها هاجرت إلى جنوب إفريقيا.
وما زال تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي يعج بعشرات أو مئات القصص المماثلة.