هنا نلتقي
إذا أردت أن تسلب النار قداستها، عليك إشعال الحرائق في كل مكان، عندئذٍ تتحول النار إلى مجرد حطب يشتعل، فلا يتعبّد أحد في محراب لهيبها.
منذ انطفائها في بيروت في العام 1982، والنار الفلسطينية المقدسة تخبو يوما بعد يوم، حتى أنها لم تعد صالحة للتدفئة، ولم تعد تشكل علامةً للفت أنظار المغيثين، بل لم تعد تشكل أهمية للمنقذين، الذين انشغلوا بالنار الصومالية، ثم الأفغانية، ثم العراقية، فالسودانية والمصرية والليبية ثم السورية، ولم تستطع ألسنة اللهب العملاقة التي شبّت في غزة مؤخراً إعادة القداسة للنار الفلسطينية الأصلية، بل إن ضحايا الحرائق المحيطة سرقت بعض وهج الشهادة من الشهيد الفلسطيني وأربكت معانيها، فالشهيد لم يعد المقاتل الذي يضحي بروحه من أجل فلسطين، فقتيل النظام شهيد، وقتيل المعارضة شهيد، وقتيل المتطرفين شهيد، حتى صار الشهيد الفلسطيني ضمن قيمة مرتبكة رغم نصاعتها، بفعل الترويج لأفكار وثنية، مثل مصادقة الأعداء على أنهم جيران، والأمر الواقع الذي سيصبح تغييره ضرباً من الخيال، وبهذا تكون النار قد سُلبت بعضُ قداستها.
ولا يخفى على كل مراقب أو متتبع للتسلسل التاريخي للأحداث في المنطقة العربية، مكابدة القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة تحديات غير مسبوقة ومفصلية، تتمثّل في خسارتها لبعدها الوطني والقومي العربي، نتيجة هيمنة الفكر الديني المتطرف ذي الرؤية الأحادية، الفكر الذي لا يؤمن بأرض أو بوطن أو بحدود، وبالتالي لا يؤمن بملامح شخصية وطنية، أو بتراث شعبي شفاهي أو مكتوب، والأخطر من هيمنة الفكر الديني يتجسد في الانقسام المذهبي، بحيث يريد البعض من الفلسطينيين الانحياز التام إلى مذهب ضد آخر، ما يعني الدخول في اقتتال سياسي وعقائدي على حساب الوطني، الأمر الذي يزيد من تراجع وطنية القضية الفلسطينية، وزلزلة ثوابتها وإعادة ترتيبها من جديد، وتحديد سلم الأعداء مرة ثانية، وقد تتمخض هذه العملية عن تحويل الأصدقاء التاريخيين إلى أعداء، والحاضنين إلى طاردين، ويتنكّر هذا الاصطفاف الجديد لدماء المقاومين الآخرين التي سالت دفاعا عن القضية وحماية جذورها.
الفكر الديني لا يشكل عائقاً أمام العمل الوطني في حد ذاته، لكنه يشكل خطراً حين يتقلّب بين الأحضان وفق المرحلة والمصلحة والدعم، إلى درجة تجعله يفتي ويشرّع التحالف مع الشيطان في سبيل تحقيق أهداف قصيرة المدى أو بعيدة المدى، والعشر سنوات الأخيرة تشهد على هذه التقلبات، التي كانت واضحة في الخطاب السياسي والزيارات للعواصم العربية وغير العربية.
ويستقي الفكر الديني الفلسطيني قوته من ضعف مواقف الطرف الآخر، وهشاشة أفكاره وضبابية أساليبه وتقديم التنازلات في مواجهة الصهيونية في فلسطين، لكن هذا الفكر يقع في مأزق الانتماء، فيتأرجح بين الوطن الذي يطمح أن يحوّله إلى إمارة، وبين الطاعة لأولي الأمر، وهذه الليونة تتسبب بالأضرار الجسيمة للقضية الفلسطينية، تفضحها وتكشف عنها تحالفات مع قوى دينية أو أطياف معارضة أو أنظمة حديثة في بلدان أخرى، ولا يتردد أصحاب هذا الفكر في المشاركة بمعارك والتضحية بالمقاتلين لتحقيق مصالح آنية، دون الانتظار لما ستؤول إليه الأمور في هذه العاصمة أو تلك، وهنا يكون الفكر الديني قد شذ عن طريق فلسطين، التي تكون قد تساوت مع أقطار العالم كلها بصفتها جزءاً من أرض الله الواسعة! بينما كانت فلسطين إلى وقت قريب، متفرّدة في تاريخها السياسي والديني، ومتميزة بلحمة شعبها المنتمي إلى أديان ومذاهب مختلفة، ففلسطين عبر تاريخها الطويل، لم تعرف البغضاء والتفرقة على أسس إيمانية، بل كان الشعب منصهراً في بوتقة الأرض الواحدة، حيث للتراب رائحة القداسة والعراقة، بخلاف ما يحاول الفكر الديني الحالي إشاعته بشأن الأماكن التاريخية والدينية وأصحاب الخطوة والمقامات والأضرحة، ويسعى إلى هدمها لأنها (أصنام في أصنام). وهذا الانزياح من موقع الوطني إلى كمين الديني أفقد النار الفلسطينية جزءاً آخر من قداستها.
لقد أشعلوا نيراناً كثيرة وصبغوها بالقداسة في إطار ما أسموه (الربيع العربي)، وتواترت الفتاوى التي تدعو إلى الجهاد ضد (الأنظمة الكافرة)، فارتفعت ألسنة اللهب بفعل تحريض أنظمة ضد أخرى، فخفتت نار فلسطين، وتراجع العداء ضد (الإسرائيليين)، واستشرس البعض وتجرأ في عقد مقارنة مشبوهة بين (المذابح) التي ترتكبها الأنظمة بشعوبها، وبين المذابح التي ترتكبها (إسرائيل) بالفلسطينيين، وتكاد هذه المقارنة أن تبرئ العدو الصهيوني من مجازره التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا، ومهدّت للتقرب منه والاستشفاء في مشافيه، واللجوء إليه والتحصّن بظهره، وساهم بعض الإعلاميين العرب بوقاحة في مديح الجيش الصهيوني وهو (يناضل) ضد الفلسطينيين في غزة، بل طالبه نفرٌ معاق وطنياً وإنسانيا بإبادة الفلسطينيين حتى يتخلص من شرورهم!
إن رسم خارطة جديدة للجهاد دون أن تشمل فلسطين، وتحسين صورة الجزار الصهيوني، أفقد النار الفلسطينية قسماً آخر من قداستها.
هل بعد هذا، لا تزال النار الفلسطينية مقدّسة؟ الشعب الفلسطيني لا يزال يؤمن بتوهج تلك النار وبقداسة لهيبها، على الرغم من النيران المحيطة وارتباك معاني ومفاهيم الشهادة والوطن والتحرير، وفي طرف المعادلة الثاني، فإن القيادات الفلسطينية، على مختلف مشاربها، خسرت بعض الإيمان بديمومة تلك النار المقدسة، متذرعة بسياسة الأمر الواقع، وبمواقف الآخرين السلبية والانهزامية من فلسطين، وبأن العالم (مش فاضيلنا).
إن السكوت على هذه الفجوة، وترك الشعب يقبض على ناره وحده سيجعل القيادة تدفع ثمن الحرائق الكثيرة التي ستنشب داخل فلسطين، حرائق ستلسع قيمة الصمود والبقاء والقداسة، ولن ينفع عندها التهديد بتسليم مفاتيح الأرض للمجرم نتنياهو، لأنه سيحرق ما تبقى من نار، والمطلوب ليس قيام الشعب بالتبرع ببعض ناره المقدسة للقيادة، وإنما بقيام الأخيرة بالتوضؤ بالنار المتبقية طلباً للتطهّر، فالرقص حول النار المقدسة يتم بقامات طاهرة نقية، وهو رقص إما يقود إلى الحرية على الأرض وللأرض، أو نيل الروح حريتها والصعود إلى السماء، فتستعيد الشهادة تفردها، ويستعيد الفلسطيني ناره الأصيلة، فهذا قدره الآن، أن يجسر الهوة قبل اتساعها، بالعودة إلى الداخل بعيداً عن التحالفات المتذبذبة، فما أشعل نار الفلسطيني سوى كبريت عظمه.
النار الفلسطينية ليست ناراً وثنية يجب رجمها أو قطع رأسها، وهي ليست حريقاً افتعله أشقياء وقطاع طرق، إنها النار التي يكابدها الفلسطينيون منذ حوالي سبعين عاما، ومحاولة إطفائها بالصمت المدقع من قبل الآخرين، أدى إلى تسرب الدخان الذي يختنق به كثيرون حالياً، ويهدد بانفجارات قد ترمي ببلدان كثيرة خارج الجغرافيا.