"فَوْقَ الميثاقِ يُوجَدُ القدِّيسُ المُبَجَّلُ الصَّلْبُ المحبوبُ الجميلُ النَّبيلُ الشَّابُّ.. إنَّهُ قِطْعَةُ الخَمْسَةِ فرَنْكاتْ القَوِيَّة للغاية!!" – بِلْزاكْ.
شعارُ الدِّيمقراطيَّة شعارٌ جذَّاب، لكنَّه فضفاض حمَّالُ أوْجُه يخضع لتفسيراتٍ تُتَّخَذُ كأسانيدٍ ومبرِّراتٍ للاستحواذ على السُّلطة وإدامة الإمساك بتلابيبها تارةً تحت مبرِّراتٍ أخلاقيَّةٍ وأخرى تحت مبرِّراتٍ واقعيَّة يتم اختراعها في الغالب اختراعاً مُتْقَناً مُبْرَماً بالنَّوايا الأنانيَّة والاستحواذِيَّة المتَّصِلةِ بجذورِ الأزمة الأخلاقيَّة التي تعيشها المجتمعات بفعلِ النَّزْعة إلى تعميقِ سِمَة التَّفاوُت والمفارَقات المرعبة في تفاصيل حياتها بما في ذلك المزيد من اكتناز الثَّروات وتركيزها في أيادي سكَّان شمال الكوكب أو في قبضةِ نزرٍ قليلٍ من الشَّركات الاحتكاريَّة العملاقة الكبرى هناك.
تلك النَّزعة الَّتي تَسِمُ عصر التَّصنيع المتقدِّم والمُغالاة التكنولوجيَّة في أغلبِ مناحي الحياة، ومرحلة سيادة مفاهيم وتطبيقات ثقافة الاستهلاك واهتلاكِ حياة الإنسان جسديَّاً وروحيَّاً في دوَّامةِ ولوْلَبِيَّةِ متطلَّبات الحياة المعاصرة. فتَحْتَ قِشْرَةِ شعار الدِّيمقراطيَّة عذْبُ المذاق يتوارى الجوهر القاسي واللُّب المُفعَم مرارةً بواقع عدم المساواة الاجتماعيَّة والافتقار لتحقيقِ المعنى الجوهري للحريَّة، وهو قناعٌ تختفي خلفه في الغالب طبائع الاستبداد السياسي والاجتماعي والاقتصادي المُقَنَّع بأكثر التعبيرات اللَّفظيَّة والرِّواقيَّة أناقة وجاذبيَّة. هكذا يتم اختراع الدِّيمقراطيَّة كشعارٍ يتلاءَمُ مع مُقتَضَياتِ مراكز القوى المؤثِّرة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً ونَخْبَوِيَّاً في أكثر من واقعٍ جيوسياسي –جغرافي سياسي، وسوسيولوجي– وفق نظريات قواعد وقوانين التطور الاجتماعي، وعلى اختلافِ مستويات تطوره المتفاوتة على سطح هذا الكوكب.
لا يَغُرَّنَّكُم ما تروْنَهُ في الظّاهر من تطبيقاتٍ تبدو مثاليَّة لمفاهيم الدِّيمقراطيَّة الليبرالية في الغرب؛ فطالما أفرَزتْ تلك المفاهيم تطبيقاتٍ مشوَّهة خطيرة في الواقع. فقد ولدت كثير من الوقائع الدِّيمقراطيَّة هناك أصلاً على قاعدةِ وفي سياقِ زيادة أو اختلال كميَّة الإنتاج الكُلِّي لصالح أو ضد عدالة التَّوزيع والمساواة في الفرص المتاحة أمام التشكيلات والبُنى الاجتماعيَّة العريضة في قاعدة الهرم الاجتماعي والإنتاجي، أو على قاعدة الهوَّة الواسعة والفوارق في الرَّواتب والأجور والدَّخول والرَّيع والرِّبح، أو ازدياد الهوَّة بين الأغنياءِ والفقراء وزيادَّة حدَّة متطلَّبات الحياة الاستهلاكيَّة، أو على هوامش الأزمات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي افتعلتها وأفرزتها نتائج الحروب.
فقد صعد الحزب القومي الاشتراكي النَّازي في ألمانيا – على سبيل المثال – إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع مطلع الثَّلاثينيَّات من القرن الماضي من واقع عمق الأزمة الإشكاليَّة لكافَّة الأحزاب في ألمانيا بفعل نتائج الحرب العالميَّة الأولى الكارثيَّة على المجتمع الألماني، ولقد جامل الجميع هتلر وعلى رأسهم بريطانيا والولايات المتحدة في بداية صعوده وقدَّموا له التَّهاني والتبريكات بفوزه الدِّيمقراطي، قبل أنْ ينقَضَّ على جواره المباشر في بولندا والنَّمسا وفرنسا ويهدد القارَّة الأوروبيَّة بأسرِها.
وها هي قوى وأحزاب اليمين الفرنسي تواصل صعودها على وقعِ شعارات ودعايات شوفينيَّة تتخذ من مواجهة الهجرة والمهاجرين مِهْمَازاً ومُحرِّكاً لتعميق حدَّة الكراهيَة تجاه الجانب بدعوى وقوفهم وراءَ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا. ولقد عبَّرَ دانييل سينجر في كتابه - ألصراع في العالم في الألفيَّة الجديدة.. ألْفِيَّة من؟ لنا أم لَهُم ؟ والصَّادر قبل سنوات عن دالَّة ما يجري في فرنسا بالقول: "باريس مكانٌ ممتاز لمراقبة التَّقلُّبات الآيديولوجيَّة غير العاديَّة".
وها هي صناديق الاقتراع تُدخل "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض بفارقٍ حاسمٍ من أصوات أكثر الطَّبقات تهميشاً في المجتمع الأمريكي، وهو الَّذي لا تربطه بها أيَّ وشائج، ففي حين تغرق تلك الطَّبقات بمزيدٍ من الفقر والبطالة وتدورُ على غير إرادة منها هبوطاً في دائرةِ لولبيَّةٍ متصاعدة نحو مزيدٍ من التَّفاوت السَّلبي اقتصاديَّاً ونقديَّاً واجتماعيَّاً لغير صالحها، وفيما يجني ترامب من خلال مجموعاته العقاريَّة والترفيهيَّة صافي أرباحٍ يقدَّر سنويَّاً بعدَّة تريليونات من الدُّولارات– الترليون يساوي مليون مليون- فإنَّه يُفلِحُ بخداعها بشعاراته البرَّاقة والشوفينيَّة الفجَّة. وبالعودةِ لليمين الفرنسي ومعيار باريس– كما اعتبره دانييل سينجر– نجد أنَّ ذلك اليمين يُغازلُ ترامب صبح مساء.
لطالَما تمَّ إعادة اختراع الدِّيمقراطيَّة في الغرب وفق مقاييسٍ وبأشكالٍ تتيح إدامة الهيمنة على العوالم الأقل حظّاً في مجال التصنيع والإنتاج وإنتاج المعرفة والتَّطوُّر والقدرة على التَّنافس في الغابة الدَّوليَّة، ولقد تقنَّعتْ كثيرٌ من الأفكار وعلى طرفي نقيضٍ بقناع الدِّيمقراطيَّة، ابتداءً من نهاية القرن التَّاسع عشر وحتَّى الآنْ، فاللِّيبراليَّة الرأسماليَّة تقنَّعتْ بذلك القناع وما زالت، وعلى نقيضها فعلت الاشتراكيَّة الماركسيَّة اللينينيَّة، وكذلك فعلت النَّازيَّة في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، ويفعل اليمين في فرنسا وفي كثيرٍ من مروحة الحركات اليمينيَّة المتطرِّفة في عموم أوروبا وكندا وفي الولايات المتِّحدة الأمريكيَّة الآنْ.
كَتَبَ الرِّوائي الفرنسي "بِلْزاك" في روايته "ابنة العم بِتْ" يُعبِّرُ عن زيفِ الولاء للأفكار والشِّعارات في الغرب فاضِحاً سيكولوجيَّة ذلك الولاء الحقيقيَّة:
"إنَّكَ أيُّها الملاكُ العزيز، تُوْهِمُ نفسَكَ وتُضَلِّلها؛ أنْ كُنْتَ تعتقدُ أنَّ الملك لويس فيليب يحْكُمُ حقَّاً. إنَّه لا يُشاطِرُكَ أوهامَكَ؛ فهو يَعرفُ، كما نعرِفُ جميعاً، أنَّ فَوْقَ الميثاقِ يُوجَدُ القدِّيسُ المُبَجَّلُ الصَّلْبُ المحبوبُ الجميلُ النَّبيلُ الشَّابُّ.. إنَّهُ قِطْعَةُ الخَمْسَةِ فرَنْكاتْ القَوِيَّة للغاية!!"