كم كنا سعداء ويحدونا الأمل ويملأ قلوبنا الانتماء إلى وطن واحد مترامي الأطراف ، بين المحيط والخليج ، ونحن ننشد على مقاعد الدراسة في أواسط السبعينيات من القرن الماضي النشيد العروبي ( بلاد العرب أوطاني ) الذي نظمه الشاعر السوري فخري البارودي ولحّنه الأخوان فليفل . حين ذاك رسم الكثيرون من أبناء جيلي خريطة الوطن العربي ، في أذهانهم بعين المستقبل ، بلا حدود مصطنعة ، أما أنا فقد رسمتها أيضاً بريشة الواقع على ورقتين متقابلتين أخذتهما من كراسة الرسم المدرسية ، فخططت ـ بخط باهت بعض الشيء ـ الحدود الداخلية التي تشي استقامتها الهندسية في كثير من المواضع بكونها مصطنعة من قبل المستعمرين الذين تركوا وراءهم من ستُلزمهم مصالحهم الشخصية والعائلية بالمحافظة عليها ، وألصقتُ تلك الخريطة على الجدار ـ خلفي ـ في الموضع الذي كنت أراجع فيه دروسي وأخطو فيه خطواتي الأولى في ميدان الكتابة .
حينذاك لم يكن هذا الشعور مستغرباً ، لأنه لم يكن بالشيء العجيب أن ندرس على مقاعد الدراسة ونحفظ النشيد السوري ( حماة الديار ) الذي لحنه أيضاً الأخوان فليفل من لبنان ، والنشيد الجزائري ( قسماً ) الذي لحنه المصري محمد فوزي ، وذلك في مقرر اللغة العربية ضمن المنهاج الأردني ، وعلى أرض فلسطينية ، ففي تلك المرحلة كان المدّ القومي والمشاعر العروبية يحتفظان بعزهما الذي كان في أواسط القرن العشرين وبلغ أوجه بأن تجسد في الوحدة بين مصر وسوريا في العام 1958 .
أما اليوم ، فالصورة تختلف بعض الشيء ، ولذلك نجد أحوالنا في مختلف المجالات تمشي القهقرى ، فقد صار من الممكن أن تجد في بلد الأخوين فليفل لبنان ـ على سبيل المثال ـ عام 2009 كتلة نيابية باسم ( لبنان أولاً ) ، وهو الأمر الذي ترفّع عنه في حينه الشاعر البحتري ، في العصر العباسي ، حينما قال متفاخراً ومقدماً مشاعره العروبية على أي انتماء قبلي أو سياسي :
نحن أبناء يعربٍ أعربُ الناس لساناً وأنضرُ الناس عوداً
فقد بدأ المدّ القومي بالانحسار في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين ، أي بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران ، وما تبع ذلك من صعود للتيارات الإسلامية في الوطن العربي لأسباب عديدة ، ولا يعني ذلك أن صعود التيار الديني يدفع بالضرورة إلى هبوط التيار العروبي القومي ، لا ، بل إنهما من الممكن أن يتعايشا معاً ، ومن الممكن أيضاً أن يشكلا تياراً إسلامياً عروبياً ، أو عروبياً بتوجهات إسلامية ، كتلك التي توحي بها أفكار الشيخ عبد الرحمن الكواكبي والمفكر محمد عزت دروزة ، بحيث يؤخذ بالاعتبار أن الإسلام هو دين الغالبية من أبناء المجتمع العربي ، وفي نفس الوقت تحفظ لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والطائفية والعرقية مواطنة متساوية أمام القانون ، ويكون الهدف الأشمل هو إقامة وحدة عربية تكون نواة صلبة لاتحاد إسلامي .
ومن هذا المنطلق ، فإن من الخطأ ـ كما أرى ـ الاعتقاد أن صعود التيار الإسلامي كفكر كان نتيجة فشل التيار العروبي كفكر ، بل إن هذا الصعود كان له أسبابه الموضوعية ، ومنها فشل القيادات التي رفعت الشعارات القومية والعروبية من تحقيق أهداف الجماهير العربية في مختلف المجالات ، وربما كان من هذه الأسباب فشل تلك القيادات في إيجاد أرضية التعايش أو حيّز التعاون أو التكامل بين هذين التيارين .
أما اليوم ، ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي العشرين ، فإن الشعور بأهمية إنجاز الوحدة العربية والتوجه نحو تحقيقها بدأ بالتجدد ، وعلى نطاق واسع ، فالعرب هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي تتقاسم أبناءها أكثر من عشرين دولة ( أو دويلة ) ، في الوقت الذي نرى فيه أمماً وشعوباً مختلفة تجتمع لتكوّن دولة واحدة ، فيا للعجب ! ، ولكن هذا التوجه العربي العروبيّ المتجدد هو بمبادرة جماهيرية هذه المرة ، بخلاف الدعوات السابقة التي كانت من خلال نخب حزبية أو رموز انقلابية ، لم تستطع ـ أو لم يخطر ببالها ـ انجاز تصميم لعلم عربي قومي موحّد تنظر إليه العيون وتتحلق حوله الأفئدة ، يُرفع إلى جانب أعلام التفرقة القطريّة ، باستثناء علم ( الثورة العربية الكبرى ) الذي رُفع في حينه .
ومن مؤشرات هذا التوجه الجماهيري نحو الوحدة ما نطالعه على مواقع التفاعل المجتمعي ( التواصل الاجتماعي ) من صفحات تسير بهذا الاتجاه ، ومنها تجربة شاركت فيها بشكل شخصي مع بعض المفكرين والناشطين الاجتماعيين الفلسطينيين والعرب ضمن فكرة ( اتحاد الوطن العربي ) منذ عامين . وما دمنا تحدثنا عن التوجه العروبي مبتدئين بنشيد فخري البارودي ، يكفي أن نذكر أن الجماهير في بلدان الربيع العربي ، الذي جعلناه خريفاً ، كان نشيدها الذي لا يفارق الساحات هو نظم البارودي هذا ، وهو يرسم بالكلمات حلم المستقبل العربي بقوله : ( بلاد العرب أوطاني ) !