يخرج الذِّئب من مأواه، من ثقب واسع في القلب، يخرج الذِّئب في اللَّيل، يرفع رأسه إلى الأَعلى، يتشمَّم الهواء، يطلق عواء مرَّاً موجعاً طويلاً: أَقداااااااااااااااااااااااااااااار.
آه علي بابا....آآآآآآآآآآآآه علي بابا....ماتت أَقدار.
أَحملهم وأَعدو في الفراغ تحت وابل الرَّصاص، والمطر، لا أَدري إلى أَين....مسجد الدَّراويش أَحرقوه، والمسجد الجديد أَحرقوه، وحسين وجدوه في الصَّباح معلَّقاً على المئذنة الَّتي لم تكن قد اكتملت بعد، والدَّير أَيضاً أَحرقوه.
من ذا الَّذي أَشعل أَوَّل عود ثقاب في المدينة؟ من ذا الَّذي أَشعل الهواء فيها، فما عاد ماء الكون كلُّه قادراً على إطفاء الحريق؟
وجدته في المقبرة مع ثلَّة من الرُّهبان، والرَّاهبات، والخورة....ثمَّة بشر أَيضاً كثيرون وجدوا في المقبرة مأوى....رجال، ونساء، وأَطفال، وقطط، وكلاب ضالَّة، يحتمون بشجر السَّرو والصُّنوبر...
كان يحتضر.
أَلقيتُ برأسي على صدره، وبكيتُ...
- إدريس، يا إدريس، المعذَّبون في الأَرض هم أَهل الجنَّة يا إدريس.
- ما حاجة الجنَّة للمعذَّبين يا أَبي...ولماذا علينا أَن نتعذَّب كلَّ هذا العذاب كي ندخل الجنَّة؟
- لكلِّ شيء ثمن يا إدريس.
- نحن...دفعنا أَكثر ممَّا يجب، ربَّما دفعنا أَكثر من ثمن الجنَّة يا أَبي!
أَنتحبُ، أَشدُّ على يده وكأَنَّني أُواسيه، وأُواسي نفسي.
- جسدي ينهار، ما عاد قادراً على حمل روحي...أَنا ذاهب إليه يا إدريس...أَخيراً، ها أَنا أَمضي في طريقي إليه...أَراه يفتح أَبوابه...أَراه وهو يضحك، ليستقبلني...اليوم أَو غداً أَموت...وينتهي كلُّ شيء.. أَين أَبوكَ؟
- لا أَدري!
- لم يعُد؟
- لم يعد بعدُ يا أَبي، لم يعد.
- جدَّتك لم تكن تنجب، يا إدريس، لم تنجب، وأَبوك وجدتُه أَنا ذات يوم أَمام الدَّير وعمره يوم واحد، كانت في تلك الأَيَّام عائدة مع جدِّك من سفر طويل...من مصر، أَو غزَّة، لا أَذكر، ورجتني أَن أُعطيه لها، استحلفتني أَلف أَلف يمين أَلاّ أُخبر أَحداً بسرِّه حتَّى الموت.....ثمَّ ادَّعت أَنَّها حملَتْ به أَثناء سفرها...هذا هو السرُّ الَّذي خبأتُه حتَّى بعد موتها عن الجميع، عنك، وعن أَبيك، ما عدتُ قادراً على إخفائه أَكثر، سأَموت، ولا أُريد أَن أَحمله معي إلى قبري، فيحاسبني عليه الرّبُّ... أَخبره إن شئتَ، أَو لاتخبره فهو سرُّك الآن وحدك، سرُّك فافعل به ماشئتَ يا إدريس.
أَشعر بأَنِّي أَهوي في بئر بلا قرارة.
هل كان يهذي؟ هل كان يعي ما يقول؟
يشدُّ على يدي فأَشعر بحرارة كفِّه.
لماذا تعود الدَّائرة لتقفل عليَّ من جديد؟
أَعوي....أَعوي....أَعوي....أَعوي.....أَعوي....أَعوي.....
أُريد أَن أُطلق رصاصة الرَّحمة على هذا العالم، وأَستريح.
أَقف في الشَّارع تحت المطر، أَعوي.
أَقتحم بيت أَسعد، أَبحث عن الفأس، الفأس الَّذي ظلَّ معلَّقاً على الجدار سنين طويلة، بالكاد أُمسك به، بالكاد، نصف الإبهام يُطبق على الذِّراع الخشبيَّة، وهي تنزلق مع المطر، أَحفر، أَحفر، أَحفر، أَحفر، أَسقط أَخيراً فوق الأَرض متعباً مذبوحاً، غارقاً بالعرق، والمطر، ويداي ممزَّقتان تنزفان دماً.
كلُّنا شخنا، كلُّنا، وعلى أَحدٍ ما أَن يطلق رصاصة الرَّحمة على هذه الأَرض كي تستريح منَّا، لعلَّها تُبعث من جديد.
يطلُّ جرذ برأسه صاعداً من الفوَّهة الَّتي فتحتُها في باطن الأَرض فأَنتشي... ينظر نحوي بحذر، ثمَّ ينطلق راكضاً، مبتعداً، يتبعه جرذ آخر، ثمَّ تتدفَّق الجرذان جحافل عبر الفوَّهة وتركض في أَزقَّة المخيَّم، وشوارعه، وأَنا لا أَزال ممدَّداً فوق التُّراب البارد، والمطر ينهمر، ويعجنني مع التُّراب....
من أَين يأتي الوجع؟
رأَيتهم يخطون من فوقي، ينضحون بالعرق، عيونهم شاردة في البعيد، أَصواتهم بخار صاعد إلى السَّماء، ووجوههم كأَرغفة الخبز المحروق، وأَنا أَدور كأَنَّني محور أَزليٌّ للأَرض، كنتُ خارج الأَسماء والأَشياء، وَحولي كلُّ شيء يتَّشح بالأَزرق: عيونهم، عماماتهم، والبسط، والسُّبح، والسَّقف، والجدران، والأَحذية، والملابس، والأَصابع المحشوَّة بالكبريت.
كيف يمكن أَن أُصدِّق الحياة، والحياة مخلوقة من ماء؟
أَنا أَعترف بأَنِّي مجنون...لا....أَنا...فقط...أَعترف بأَنِّي لا أَعرف من أَكون!
كيف لامرأَة أَن تكون خارج الوصف والكلام؟ كيف لامرأَة أَن تكون البسملة والفاتحة والختام؟
كان اسمها......آذااااااااااااار!