الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عندما تحققت أعظم أمنيات زياد؛ أخرسه الهم/ بقلم: طارق عسراوي

2017-02-07 10:03:44 AM
عندما تحققت أعظم أمنيات زياد؛ أخرسه الهم/ بقلم: طارق عسراوي
طارق عسراوي

 

كان يصحو فجراً كي يتحقق من أن والدته أعدت له الأطعمة والساندويشات التي تلزم لرحلته المدرسية، في تلك الحالة فقط لم تكن تتكبد عناء ايقاظه باكراً على خلاف أيام العام الدراسي التي كان فيها آخر من ينهض للتوجه إلى المدرسة، وغالبا ما يصلها متأخرا !

 

لقد بلغ عقده الرابع ولم تفارقه عادته، ففي تلك الليلة نهض من فراشه قبل صحوة الشمس يتفقد حقيبته الرياضية التي سيأخذها في رحلته الأولى إلى الجولان المحتل، لقد بدت لهفة الثلج ساخنة على وجهه كما لو أنه ما زال صبياً، فهذه هي المرة الأولى التي يصعد فيها إلى قمة جبل الشيخ.

 

في الثامنة صباحا وقف أمام المجندة على حاجز الجلمة، كما لو أنه في طابور المدرسة، قرية الجلمة على يمينه وشقيقتها مقيبلة على يساره لا يفصل بينهما سوى الحيّز الذي أقيمت فوقه البوابات والاسلاك الناتئة التي صارت حاجز الجلمة، ويقال عنها الحدود !

 

- إلى أين تتجه؟  سألته المجندة وهي تجلس خلف واجهة زجاجية والبندقية فوق فخذيها. 

- إلى شيب الرجل الكبير، جبل الشيخ. أجاب ساخرا.

 

ثم صعد الحافلة واختار المقعد الأول قرب النافذة حتى يتمكن من سؤال السائق عن أسماء القرى والمدن التي يمرون فيها خلال رحلته الأولى إلى تلك الناحية من البلاد.. بلاد ما خلف الجدار. 

 

سارت الحافلة، بينما هو مأخوذ بروعة مرج ابن عامر، الذي يظهر مثل سحب خضراء تهيم في المدى خلال هذه الفترة من السنة، وبدت القرى والمراعي على جنبات الطريق تعدو من خلال النافذة. 

 

هذا سهل زرعين، عند هذا التقاطع كانت القرية تقيم أعراس الحصاد –قال السائق -وإذا تابعنا السير إلى الأمام نكون في اتجاه الناصرة.

 

 إلا أن الحافلة انعطفت يميناً من تقاطع قرية زرعين تقطع السجادة الخضراء صوب الجليل الأعلى.

 

تناول من جيبه دفترا صغيرا وراح يرسم خط سير الحافلة، ويدوّن أسماء القرى والبلدات التي يمر بها؛ الناعورة، طمره وأم الغنم. هناك تذكّر صديقه الذي يرد تحية الصباح بعبارته الفذة: صباحك ورد من سهل دبورية، ويضيف باسماً: هِيَ دبورية، وأنا دبور. 

 

ها هي دبورية، لطالما وصفها دبور بالمَصون حيث يسند ظهرها جبل الطور مثل حارس يرافق ليلها ونهارها، هنا تجلّى المسيح وأخرج الفتى من عتمة التابوت والقرية من ظلمتها.

 

معلّقة على سفح الجبل عين ماهل، وعلى جنب الطريق ما زال أثر خان التجّار قائما على درب القوافل التي عبرت إلى مصر محمّلة بنبات البردي من الحولة.. جُفّفت مياه الحولة العذبة بعد أن غاب أثر القوافل.

 

هناك تماماً على يسار الطريق قرية الشجرة، لم يبق من الشجرة الا رسم الكاريكاتير! صباح الخير يا ناجي العلي .. صباح الخير يا حنظلة.

وأظنها طرعان من رفع اَهلها بيوتهم عاليا فبقيت عامرة. 

 

 في البعيد، على يمين الطريق جبلٌ كأنه مقطوع بضربة سيف ما زال يرسل صدى صهيل الخيول من معركة حطين، على تلك التلة وقف صلاح الدين منتصراً تمدّ له أميرة الجليل يدها وتطيّر له الحمام من الوادي السحيق.  

- أما تلك التي فوق التلال فهي مدينة صفد. قال السائق.

 

وزياد يكتب في دفتره الصغير الحكايات والبلاد.. يشعر بالفخر عند حكاية وينتكس عند أخرى، يبحث عن أي أثر للبيوت أو الحجارة المردومة، حين يبدأ السائق كلامه بعبارة "هنا كانت " .. فبالحجارة يستدل الحنين على أهله الغائبين، ويعيد لهم الأمنيات التي خبأتها الجدات تحت العتبات بعد أن بلّلنها بالدعاء الساخن! 

 

 ثلاث دبابات مطليّة بألوان زاهية وضعت على مدخل قرية الخالصة في حديقة للأطفال!

دبابة زرقاء، وصفراء وثالثة حمراء فاهية.. يتقافز فوقها أحفاد من انتصروا بالحرب السريعة، بدّلوا لونها بعد أن نفدت ذخيرتها وانقطعت عنها الأوامر، وصارت تذكارا يبقي هزيمتنا حديقةً عامّة يتقافزون فيها لهواً جيلا بعد جيل.

 

- لماذا تفقدني المعدات العسكرية رغبتي بالحرب اذا بدّلت لونها وصارت زاهية! قال في نفسه.

 ثم قفز واقفا في ممر الحافلة يشير بيده إلى خارج النافذة وهو يؤكّد؛ تخيلوا عودتنا فوق دبابة زهرية كهذه.. يجب أن يعيدوا لها لونها حتى لا تصبح الحرب رسوما متحرّكة !!

 

تخيّلوا شريط الحرب الاخباري على شاشة "سبيستون" !!

لا .. مستحيل .. !! 

 كان السائق ينظر إلى زياد عبر المرآة الأمامية، حين صاح به منظّم الرحلة ليجلس في مقعده، مذكّرا إياه بالعهد الذي قطعه كي يصطحبوه معهم، ولذا لم يميّز السائق فيما اذا كان زياد ساخرا ام جادّاً في قوله، لكنه ظل ينظر إليه بعين الريبة.

- هذا هو المزعج؛ زياد الزرّيعة. قال بعض الركّاب ساخرين وقد لاحظوا نظرات السائق.

  

توقفت الحافلة بعد أن غادرت أراضي قرية الخالصة، وقال السائق عبر مكبر الصوت مخاطباً الركاب: لقد خرجنا من فلسطين المحتلة ونقف الآن على الأراضي اللبنانية وبعد عدة أمتار ندخل في الأراضي السورية، هذه القرية القريبة التي ترون بيوتها على يساركم هي قرية الغجر.. أما النهر الصغير الذي سترونه في طريقنا بعد قليل فهو نهر الحاصباني.

 

وفعلاً لم تسر الحافلة حتى جاء صوت السائق مجددا.. أهلا بكم في الأراضي السورية، فنحن في بانياس.

لم يغادر زياد البلاد من قبل- أعني البلاد كلها الواقعة على طرفي الجدار- اجتاحته رغبة بالقفز مجددا في ممر الحافلة، أراد الصراخ بعفويّة أن أمنية من أمانيه قد تحققت للتو، بل أعظم أمنياته على الإطلاق، فقد عبرت الحافلة ثلاث دول عربية دون أن تقف للتفتيش، ودون تأشيرة أو وثائق سفر! 

 

أراد أن يهتِف للوحدة العربيّة!

إلا أن قشعريرة سرت في جسده -حين استعاد صورة المجنّدة وهي تضع البندقية فوق فخذيها- كما لو أنّ أعداداً هائلة من الحصى وقطع الزجاج الصغيرة تجري في أوردته، فأقعدته وأصابته بالخرس .. ولم ينظر بعدها خارج النافذة في طريق العودة .. كما أنه لم يخبر أحدا ماذا فعلَ حين وقف على قمة جبل الشيخ..

 

وكيف بَدَت له العواصم القريبة من هناك!