الحدث الثقافي
من يقرأ هذه السطور من زملائي الكتاب والشعراء الذين شاركتهم البدايات ، سيتذكر حتماً ما عاناه كل منا من إلحاح التشّوق ، أو التحرّق ، إلى أن يرى نصّاً من النصوص التي اعتصرها من فكره وخطّها بقلمه ، على صفحات جريدة أو بين دفتي مجلة ، ذلك أن هاتين الطريقتين هما المدخل الصحفي والإعلامي المتوفر للوصول إلى المتلقين ، آنذاك ، فلا إذاعة ولا تلفاز في وطن صغير محتل ، ولا قنوات فضائية في وطن كبير ، نفترض أنه خارج مساحة الاحتلال ، أما وسائل الإعلام الإلكتروني الحاسوبي من مدونات ومواقع أدبية ومواقع للتفاعل المجتمعي ( التواصل الاجتماعي) فتلك نعمة كانت في عالم الغيب ، ولذا فإنها لم تكن لتخطر لنا على بال !
وما دامت الصحف والمجلات هما الوسيلتان الإعلاميتان المتوفرتان أمام الأدباء لنشر إبداعاتهم ، وما دامت المساحة المتاحة للأدب هي صفحة في صحيفة تخصَّص للأدب والثقافة مرة في الأسبوع ، أو صفحات مجلة تصدر مرة في الشهر، في أحسن الأحوال ، فمن الطبيعي والحالة هذه أن يكون التنافس بين المواد المرشّحة للنشر شديداً ، وخاصة في المرّة الأولى ، والتي تعتبر الخطوة الأولى التي يضع بها الأديب قدمه على عتبة ( صاحبة الجلالة ) ، وما دام التنافس شديداً ، فلربما خرج التنافس عن كونه بين ( كتابات ) ليكون بين ( كُتاب) في سبيل تحقيق هذه الخطوة ، بما يعنيه ذلك مما هو عن ذهن المواطن العربي ، في أيامنا هذه ، ليس ببعيد ، وهو الأمر الذي قد ينتج عنه بعض الإشكاليات المتوقعة ، أو غير المتوقعة ، كالذي حدث معي في أول نصّ نُشر لي ، وكان قصّة قصيرة ، فقد أرسلتها إلى صحيفة مع من سبقني بـ (خطوة العتبة ) بمدة وجيزة ، فما كان منه إلا أن نشرها باسمه ، وجاءني معتذراً بحجة لم يقبلها عقلي ، وتبيّن لي فيما بعد عدم صحتها ، ولكن نفسي طابت بهذه الحجة لفرحي بأن أرى نصّاً كتبته أنا ، ومن إبداعي ، على صفحات جريدة ، غير أنني ومنذ تلك الحادثة لم أكتب القصّة القصيرة أبداً !
أما اليوم ، فقد أصبح النشر ميسّراً بفضل التكنولوجيا أفضل من ذي قبل ، وخاصة بعد انتشار المدوّنات والمواقع الأدبية ومواقع التواصل الاجتماعي ، وأهمها في بلادنا ( فيسبوك ) ، فبفضل هذه النعمة أصبح بإمكان الكاتب نشر ما يشاء ، وقتما يشاء ، بل توفرت للصغير والكبير والعالِم وحتى الجاهل وسيلة إعلامه الخاصة التي يديرها بذاته ويحررها بنفسه .
ولكن الإنسان الذي كثيراً ما يحوّل نعم الله نقماً ، فيقطع أشجار الغابات ، ويلوث الأنهار، ويطأ بساط الثلج الأبيض الناصع بقدمه الملطّخة بالوحل ، قد أفسد على نفسه ـ في كثير من الأحيان ـ هذه النعمة ، وأعني هنا نعمة مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمواقع الأدبية وغيرها ، فعمد إلى تشويهها ، بنشر المنشورات التي تفسد ولا تصلح ، وتضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني ، وقد كان لبعض هواة الأدب ـ وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي ، وأهمها فيسبوك ـ في ذلك نصيب ، وأعني بهذا القول هواة الكتابة الذين لا مستقبل لهم في ميدان الأدب ، وهم الذين أسميهم في هذه المقالة ( أدباء فيسبوك ) ، من باب المجاز ، مع التنويه إلى أنني لا أتحدث عن أصحاب التجربة الأدبية المعروفين الذين لهم صفحاتهم وحساباتهم على فيسبوك ، ولا عن ذوي المواهب الجادّة الذين يشقون طريقهم إلى المتلقي بتوظيف هذه الوسيلة السهلة المتوفرة ، كما أنني لا أتحدث عن شخص معين ، أو أشخاص معينين ـ حاشا وكلا ـ ولكنني أتحدث عن ظاهرة بادية للعيان ولا تخفى على أحد.
فما أن ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي حتى بدأت منشورات هؤلاء الهواة تنتشر على صفحات هذه المواقع انتشار النار في الهشيم ، فيكتب الواحد منهم ما يظنه أدباً وشعراً ، دون أن يراعي للأدب منهجاً قويماً ، وللشعر وزناً مستقيماً ، بل دون أن يحفظ لكليهما لغة سليمة ، لأنه لا يستطيع أي شيء من ذلك ولا يقدر عليه، ومع هذا ، فإذا كان هذا ( الهاوي) نشيطاً في تواصله ومتابعته ، ويتقن إدارة العلاقات الاجتماعية ، ويحسن لفت الانتباه إليه بإحدى طرقه ، ومنها حُسن الهيئة ، وخاصة لدى بعض النساء ، فإنه سيقطف العشرات بل المئات من تسجيلات الإعجاب ، وذلك من باب مجاملة الأصدقاء من ناحية ، وافتقار بعضهم إلى القدرة على معرفة المواصفات والشروط الفنية فيما يمكن أن نسميه شعراً أو أدباً من ناحية أخرى ، فإن الكثير من البسطاء مثلاً يحسبون كل سطرين تشابه الحرفان الأخيران منهما شعراً ، فينطلق هؤلاء ( الهواة ) من جهلهم الذاتي بحقيقة الأدب ، ليستغلوا بساطة غيرهم من الأصدقاء الاجتماعيين أو ( الفيسبوكيين ) ، ويقتنصوا منهم تسجيلات الإعجاب التي بناء عليها يعلنون عن أنفسهم شعراء وأدباء!
ولو توقف هؤلاء عند هذا الحد ، فلربما هان الأمر ، ولكن البعض منهم قد اشتطّ في تقدير نفسه ، وغالى في الافتتان بها ، حتى أنشأ صفحة باسم صفحة أصدقاء أو أحباء أو مُريدي وربما أتباع أو أنصار الشاعر أو الكاتب فلان ، ومنهم من أعطى لنفسه صلاحية أن يوزع على غيره الألقاب الفخرية وشهادات التقدير ، فيا للعجب!
إننا لأصدقاء هؤلاء الهواة نقول : أيها المبالغون في التشجيع عن غير دراية ولا علم رفقاً بأصدقائكم ، فلا تغرروا بهم ، ورفقاً بالأدب حتى لا تفسدوا بالمبالغة في تقدير ما يكتبون معنى الأدب وقيمة الإبداع .
كما أننا لهواة الكتابة هؤلاء نقول : رفقاً بأنفسكم أيها الأحباب ، ليس لأحد أن يمنعكم من التعبير عن أنفسكم ، وبأجمل ما يمكن أن تروه مناسباً ، وليس لأحد ـ أيضاً ـ أن يؤاخذ أياً منكم لأنه يمتلك من الطموح الكثير ، ولكن خذوا برأي من قال : ( رحم الله امرأ عرف قدر نفسه !) ولا تحمّلوا أنفسكم ما لا طاقة لكم به ، حتى لا ينتهي الحلم ذات صباح ويصحو الواحد منكم على واقع مرير ، وخيبة أمل قاسية ، فينطبق عليه قول القائل : خدعوها بقولهم حسناء !