العنوان مستفز؟ نعم فهو يخدش الصورة الجميلة الراسخة في وجداننا ووعينا وقصائدنا للأرض والوطن، ولكن الواقع أقسى من ذلك بكثير، تعالوا إذن نستعرض بعض الحقائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية المرتبطة بالموضوع.
تنفق الدول الصناعية المتقدمة عشرات مليارات الدولارات سنوياً للتخلص من النفايات وتدويرها، وهي تواجه في ذلك رقابة صارمة من منظمات البيئة والبلديات وسائر منظمات المجتمع المدني. وتستعر معارك طاحنة بين الحكومات ورأس المال الجشع من جهة، وبين المدافعين عن البيئة من جهة أخرى، وهؤلاء لا يدافعون فقط عن حق الجيل الحالي في بيئة نظيفة، بل عن حقوق الأجيال القادمة ومستقبل البشرية.
ويزيد من صعوبة المشكلة أن بعض النفايات، كالمواد المشعة والسامة، ومخلفات الصناعات الكيماوية، والمواد الطبية المستهلكة، لا يمكن التخلص منها إلا عبر عمليات وطرق علمية معقدة ومكلفة، حتى لا تؤثر على البيئة والمياه الجوفية والموارد الطبيعية.
إسرائيل كدولة صناعية متقدمة، وجدت حلاً سهلاً لهذه المعضلة، فهي فضلاً عن استباحة الأرض والجو والإنسان والسوق الفلسطينية، تلقي بكل نفاياتها إلى أرضنا من دون تكاليف تذكر، بل ربما تحقق فوائد اقتصادية وسياسية من ذلك.
وتتخلص إسرائيل من نفاياتها بضخها إلينا، هكذا ببساطة، كما يجري مع مصانع "غيشوري" التي تلقي بسمومها جهاراً نهاراً إلى ضواحي مدينة طولكرم، وكما تفعل مصانع "بركان" في محافظة سلفيت، وبلدية الاحتلال في القدس إلى أطراف العيزرية وأبوديس والسواحرة. ولا نعرف الكثير عن طرق تخلص إسرائيل من النفايات المشعة، مع أن شواهد كثيرة تدل على أنها تستغل المناطق الواسعة التي تصنف كمناطق عسكرية مغلقة لهذه الغاية، علماً بأن حكومة إسرائيل وجدت صعوبات جمة ومقاومة ضارية من السكان والبلديات عند محاولاتها استبدال مكب "الخيرية" قرب الرملة، بمكب بديل جنوب تل أبيب.
ويلاحظ أنه في كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وبخاصة في القرى والبلدات المتاخمة للخط الأخضر، نشأت وازدهرت تجارة المخلفات الإسرائيلية: تلال مكدسة من السيارات المشطوبة، وأسواق نشطة للأثاث المستعمل، وبسطات للبضائع الفاسدة التي يتسلل كثير منها للمحلات التجارية، كما أن جزءاً كبيراً من المواد الغذائية المنتهية الصلاحية كاللحوم ومشتقات الألبان يجري تدويرها وتجد طريقها لتتسلل كمدخلات لبعض الصناعات الغذائية الفلسطينية، في ظل القدرات المحدودة للأجهزة الصحية والرقابية الفلسطينية.
ولا تقتصر المصيبة على النفايات المادية بأنواعها الصلبة والسائلة والغازية، فقد كان من حظنا أن يلقى إلى أرضنا بحثالات المجتمع الإسرائيلي، من غلاة المستوطنين المهووسين والمدججين بأفكار التعصب والتطرف والأساطير، أولئك الذين يحب نتنياهو أصواتهم في الانتخابات ويستخدمهم لدعم سياساته. ولكنه حتماً، ومعه معظم شرائح الطبقات الوسطى والعليا الإسرائيلية، لن يرحب بهم جيراناً في محل سكنه، أو أن يختلط أولاده بأولادهم، فيكون الحل السحري على حسابنا دائماً بإلقائهم إلى أرضنا، كالسيارات المشطوبة، والبضائع المسمومة.
ومن المؤسف أن تعامل إسرائيل مع أرضنا كمكب لنفاياتها لم يلق حتى الآن اهتماماً سوى من الهيئات المعنية بالبيئة والبلديات والمجالس القروية، والموضوع يستحق فعلاً خطة وطنية شاملة لمواجهة هذا المصير تتضافر فيها جهود الحكومة والفصائل ومنظمات المجتمع المدني والجامعات والنقابات وغرف التجارة والصناعة وحتى الديبلوماسية الفلسطينية وكل من هو حريص على الأرض ومستقبلها.