جرى في السنوات الأخيرة على ألسن الناس في وطننا العربي ـ وخاصة على ألسن المثقفين والمحللين السياسيين منهم ـ مصطلح ( نظرية المؤامرة ) أثناء تحليلهم للأحداث ومخرجاتها في بلداننا العربية وفي العالم.
وهذا المصطلح هو معروف في عالم العرب والعجم على حد سواء ، وهو يشير إلى طريقة من التفكير والتحليل تفسّر الوقائع والأحداث على أنها نتيجة مؤامرة ، وذلك بسبب الجهل أو نقص المعلومات اللذين يحرمان المرء من القدرة على تفسير الأحداث بشكل علمي ومنطقي.
وبالطبع ، فإن الأمر يزداد سوءاً إذا أضيف إلى الجهل ونقص المعلومات ، ذلك القدر الهائل من التزوير الإعلامي الممنهج الذي يتعرض له المتلقون البسطاء ، وأعني البسطاء في تفكيرهم ، وبعضهم من حملة الشهادات ، وذلك من وسائل الإعلام الضالعة بصورة أو بأخرى في الصراعات ، حتى أصبحت استراتيجيتها الإعلامية تقوم على الكذب في الخبر والتحليل ، والتزوير في التقرير والتصوير، بهدف السيطرة على عقول هؤلاء البسطاء ـ وهم الغالبية في مجتمعاتنا ـ لتجعل معها أصحاب العقول النيرة في عزلة إلى الدرجة التي يخجلون فيها من مجرد طرح آرائهم المخالفة للمناخ الإعلامي السائد.
في مثل هذه الأجواء ، ليس من الغريب أن تجد أينما التفت حولك في بلداننا من يفسر الأحداث بشكل فج ـ وسخيف أحياناً ـ بناء على هذه النظرية التي مصدرها الأول هم الحكام ووسائل إعلامهم ( المتآمرة ) معهم ، أو مع أموالهم ، ومن خلال هذه النظرية يحاول هؤلاء الحكام التغطية على تقصيرهم في خدمة الأمة وعدم قدرتهم على تحقيق الإنجازات ، فيجدون في بعض البسطاء ضالتهم ، وأقصد هؤلاء البسطاء الذين تعدوا مرحلة البساطة في التفكير ووصلوا مرحلة عمى البصيرة التي من أعراضها الانغلاق والإعراض عن مجرد الاستماع إلى الرأي المخالف ، فتطوح بهم رياح وسائل الإعلام هذه حيث تشاء ، فتراهم يرددون معها وتحت تأثيرها تحليلات ( جنرالات الفضائيات) للأحداث العسكرية ، كما يتبنون في المواقف السياسية آراء مفكري الأنظمة ، ومقاولي الإفتاءات من علماء السلاطين الذين من خلال وسائل الإعلام تلك يلوون أعناق النصوص ويحرّفون الكَلِمَ عن مواضعه !
ومن الأمثلة على عمى البصيرة ، الانسياق وراء وسائل الإعلام تلك ـ بقصد أو بدون قصد ـ نحو منزلق تأييد مشعلي نار الفتنة الطائفية ، لدرجة تجاهل تحالف بعض الحكام مع الأعداء والخصوم ضد إخوانهم من أبناء الوطن والأمة ، وهؤلاء الحكام أصحاب تجربة ودراية في هذا المجال ، فإنهم إذا فقدوا المبرر لفعلتهم الشنيعة تلك ، استعانوا بعلماء السلاطين لدق الإسافين بين أبناء الأمة عبر وسائل الإعلام بمبررات فقهية وتعاليم لم تكن بالأمس القريب لتخطر لهم على بال ، لتبرير فعلتهم ، أو لصرف أنظار الناس عنها ، وكأن التعاليم التي استند إليها هؤلاء في إذكاء نار الفتنة وليدة ساعتها ، أو كأنها تجيز لهم أن يستعينوا بالأعداء ضد الأشقاء! ليس هذا فقط بل تراهم يطبقون في عدائهم لإخوانهم القول المأثور : ( رمتني بدائها وانسلت ) ، حيث يلجؤون إلى ( نظرية المؤامرة ) هذه ، فيروجون الأضاليل بأن الشق الثاني من الشعب أو الأمة هو الذي يتآمر ضدهم مع الأعداء ، وهم يعلمون علم اليقين أن أولي الأبصار من الناس يرون ببصرهم وبصيرتهم سوء ما يفعلون !
وهنالك مثال آخر على عمى البصيرة ، ولكنه من الزاوية المقابلة هذه المرّة ، فإنك ترى بعض البسطاء ـ بتأثير ذلك الإعلام أيضاً وهو الذي يستعين بنظرية المؤامرة كما أسلفت ـ ينجرّون وراء طرف من أبناء الأمة في عداء مرير ضد الطرف الآخر ، مصدقين ـ أو محاولين تصديق ـ ما يدعيه صاحبهم من حرص على الأمة وعلى مصالحها وحرية أبنائها ، والقاصي والداني يعرف أنه بعيد كل البعد عما يدعيه ، وأن أفعاله تكذب أقواله ، وأنه لم يكن في يوم من الأيام إلا العدو المبين لكل ما يدّعيه ، ولربما كان خصمه هو الأقرب إلى هذه المثل السامية منه ، ومع هذا ينجرّ هؤلاء المخدوعون وراء هذا الكذاب الأشر ، الذي يبني بنيان مصالحه الشخصية والعائلية على أنقاض بنيان الأمة
وأكتفي بذكر نموذج ثالث من عمى البصيرة ، وهو الذي يتمثل في العجز عن رؤية لعبة المصالح بين الأطراف ، فإن بعض المخدوعين يتبعون أصحاب الهوى إذا أرادوا الإساءة إلى طرف هو الأقرب إلى الصدق منهم ، ذلك أن أصحاب الهوى هؤلاء إذا عجزوا عن منافسة الطرف المقابل من أبناء الأمة في ساحة من الساحات اتهموه بناء على ( نظرية المؤامرة ) بمحالفة أعدائها في ساحة أخرى وخاصة إذا اضطرته مصالحه إلى مناورة معينة في تلك الساحة ـ بغض النظر إذا ما كانت المناورة مبررة أم لا ـ متجاهلين أنهم وكما يصفون أنفسهم هم ( الحلفاء الاستراتيجيون ) المخلصون لهؤلاء الأعداء في جميع الساحات وعلى مدى السنوات !
وختاماً ، كم هي صحيحة العبارة التي تقول : ( الشيء الأسوأ من أن تكون أعمى ، هو أن تمتلك البصر وتفتقد البصيرة ) . دامت بصائركم !