يفتح مقهى أشجار الكينا الواقع في طرف المدينة بابه للزبائن في أول الربيع من كل عام ويغلقها في أخر أيام الصيف، فكأنّه ميقات يدل على تعاقب الفصول.
ومن سمات روّاده وزبائنه أنهم مجموعة من الموظفين المتقاعدين، أو الذين صاروا اجداداً بسمة عامة.
يلتقون هناك، وفيه يتبادلون صمتهم ويتشاركون مللهم الأخير، يتثاءبون وإذا ما تحدثوا كان الفعل الماضي الناقص حاضراً في كل جملة فحديثهم دائماً يجتر ماضيهم وذكرياتهم القديمة!
ومن المهم أيضا الإشارة إلى أن المقهى يفتح ابوابه في تمام الثامنة صباحا ويغلقها في الثامنة مساء، حيث إنه في تمام السابعة والنصف مساءً تفرغ أنبوبة الغاز وليس بالإمكان تقديم طلبات جديدة.. فتلك هي طريقة صاحب المقهى المهذّبة من أجل كنس الزبائن إلى بيوتهم.
في ذلك المقهى يلتقي سبعة مدرسين متقاعدين - كانوا ثمانية فيما مضى - تعرفهم المدينة كلها فقد علموا أبناءها خلال أربعين عاما اشتغلوها في تدريس أبناء المدينة، ولهم عند الناس مهابة المعلّم الأصيلة.
بدءا من أول أيام الربيع يلتقون في فيء شجرات الكينا الباسقة، التي نمت على ضفّة مجرى عين ماء المدينة حتى صنعت سقفاً سماوياً للمقهى قبل أن يجف النبع. كانوا يشكّلون في جلستهم صورةً لنصف دائرة، أو شكل قوس متقابلين مع قرص الشمس الربيعية في ساعات ما بعد الظهيرة، وكلما انحرفت الشمس قليلاً عن موضعها قاموابتحريك مقاعدهم وازاحتها بما يوافق حركتها، كأنهم ورثوا من بذور عبّاد الشمس - التي يمضون ساعاتهم "يفصفصونها" – سمات الزهرة الجينيّة، فصاروا مثلها يلحقون زهرة السماء إلى أن تختفي وتغيب فيمضي كلّ واحد منهم إلى منزله.
لم يكن ليتخلّف أحدهم عن المجلس، وإذا غابوا عادوا بعد ثلاثة أيام ناقصين واحداً يحملون ذكره على لسانهم بالرحمة والمغفرة.
وزهرات العبّاد تلك، لم تكن تسمح لأحد بالانضمام إلى مجلسهم، واذا حياهم أحد من بعيد ردوا عليه التحيّة بأفضل منها، أما اذا اقترب وصافحهم فصافحوه جالسين، ودون دعوته إلى الانضمام إليهم!
وحده زياد كان مرحّباً به في مجلس الشمس رغم أنه في عمر أحفادهم، فحين يحييهم من بعيد يرحبون به وينهدوه لمجالستهم! والسبب في ذلك يعود إلى أنه حفيد صديقهم الذي شغل المقعد الثامن لسنوات، فكانوا وفاءً لجدّه واشفاقا على حال الصغير الذي فقد جده ووالده في حادثة سير واحدة، يمازحونه ويلحفون في دعوته بالانضمام إليهم ليشرب العصير أو يتناول المثلجات فيجلب مقعده ويجلس في بداية القوس.
في حركة لا-إرادية تتحرك المقاعد في تناغم مع إيقاع الشمس الخجولة إلا مقعد الفتى يبقى ثابتاً، فبدا المشهد لروّاد المقهى كما لو أن الفتى هو نقطة الارتكاز لنصف قطر الدائرة لصغر حجمه، ولكونه الثابت الوحيد في حالة الدوران، فصار اسمه " زياد النُقطة " وغالباً ما يشار إليه بـ " النقطة " فقط.
تورط الصبي في مجالسة الأساتذة إلى أن أصبح واحدا من أفراد المجلس، وشيئا فشيئاً كبرت مفرداته وتغيّر لسانه ووعيه حتى وجد هوّة تفصل بينه وبين أقرانه من الصبيان وانحسرت القواسم المشتركة بينه وبين جيله إلى أن اضمحلت كلياً، فبشكل تلقائي أصبح يتحدّث بلغة الماضي كأن يقول؛ " كنا ما قبل النكبة كذا وكذا، أو كانت البلاد في ثورة 1936 .." ولذا صار كهلا صغيرا!
في بداية الربيع الجديد، عاد الأصدقاء إلى مجلسهم بعد شتاء اتسم بالرحيل حيث نقصوا ثلاثة في الشتاء المنصرم وعاد زياد يجلس في أول السطر، لم يعد بإمكانهم الان اتخاذ شكل الهلال، فاتخذوا شكل خط مستقيم قصير لم يتوقف عن عادته بالدوران.
في عصر يوم من أيام الاحد، وكانوا قد التقوا بعد غياب ثلاثة أيام، بينما هم يتحدّثون عن واقعة اهتزّت لها المدينة حدثت قبل عشرين عاماً، سأله الأستاذ عادل – أستاذ التاريخ والجغرافيا -فيما اذا دعاه ذلك الرجل الذي جاب المدينة ليسأل الناس اتباع نبوّته فيدخلون الجنة!
صمت زياد من صفعة السؤال! فقد حدثت تلك الحكاية قبل مولده بأربع سنوات.
يومها قرر أن لا يعود إلى ذلك المقهى، وأن ينساب طبيعيا مع أبناء جيله وأقرانه، الا أن هوّة ساحقة كانت تفصل بين لسانه ولسان أقرانه، كان يحادثهم مستندا الى الفعل الماضي كأن يقول : كنا نركب الحافلة حتى نصل عمّان، أو كانت شاحنات البطيخ العائدة من بيروت تجلب معها كذا وكذا.. "، بينما هم يتحدثون بلسان المستقبل والبدايات الجديدة، فوجدوا فيه صبياً قادما من ماض لا يكترثون به ووجد فيهم لغة غدٍ لا يفهمه!
في الربيع الماضي وعندما افتتح المقهى بابه، كان زياد يجلس وحيدا في فيء الكينا يدور بمقعده حول نفسه، تائهاً.. يبحث عن شمس حاضره!