كثيرة هي التفاصيل المدهشة التي يصدم بها دونالد ترامب العالم كل يوم، وكثيرة هي الأسئلة حول توازنه العقلي وقدرته على استيعاب حجم المسؤوليات المهولة التي تقع على عاتقه كرئيس الولايات المتحدة الأمريكية التي ما زالت تتمتع بقدرة مهولة على التأثير وفرض إرادتها في العالم. لكن رغم كل ما يعتري هذه الإدارة من الفوضى وعدم استقرار وانعدام الوضوح بالنسبة لسياساتها الخارجية، لا يلوح في الأفق سيناريو تتقدم فيه دول بعينها لخلق توازن ما مع هذه الإدارة التي شبهها الكثيرون بمقطورة خرجت عن السيطرة ويمكن أن تُحدثَ كارثةً في أي لحظة.
اللحظة التي جسدت هذا الجنون والانفلات السياسي فيما يخص الموضوع الفلسطيني تمثلت في المؤتمر الصحافي الذي عقده ترامب مع رئيس وزراء إسرائيل في البيت الأبيض قبل حوالي الأسبوع. خلال المؤتمر، بدا نتنياهو كالطاووس المغرور الذي لم يستطع إخفاء سعادته العارمة بإدارة تتبنى رؤية على يمين اليمين الإسرائيلي المتطرف فيما يخص الفلسطينيين والإسلام والحرب على الإرهاب وغيرها من المواضيع المتداخلة التي من شأنها أن تؤثر بشكل مباشر على مستقبل الصراع وإمكانية تجسيد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. أما ترامب، فقد بدا للجميع كالأبله الذي وجد نفسه في مقود السيطرة وتعامل مع هذه المواضيع الجسام باستخفاف مرعب ومقلق حتى لأصدقاء إسرائيل التقليديين في الولايات المتحدة ممن لم يفقدوا عقلهم لصالح التعصب والشعبوية الجارفة حتى الآن.
عن الاستيطان، خاطب ترامب نتنياهو بابتسامة عريضة وود ملحوظ وطالبه بوقف الاستيطان "قليلاً" حتى يتم الاتفاق على صيغة لذلك. هذا الموقف ينسف الموقف التقليدي الأمريكي المنسجم قولاً مع القانون الدولي. أما فيما يخص حل الدولتين، وهو الحل الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على كل العالم منذ عقود، فقد علق ترامب باستخفاف أنه جاهز لدعم أي صيغة يراها الأطراف مناسبة وقال "دولة، دولتان، لا يهم"! تزامن هذا التصريح الأرعن مع تصريحات وخطوات إسرائيلية لا تقبل الالتباس في رفضها لحقوق الشعب الفلسطيني وإصرارها على منع قيام الدولة الفلسطينية والمجاهرة بحلول عنوانها التطهير العرقي والتهجير والاضطهاد المؤبد.
استقبل نتنياهو هذا التحول الدراماتيكي في الموقف الأمريكي بسعادة لم يستطع تمويهها ففرد ريشه واستطرد في نقاشه لحل إقليمي، كما وصفه، يلجم الخطر الإيراني ويحجم الكيان الفلسطيني باعتباره كياناً معادياً وعنيفاً وجب حصره فيما هو مقبول إسرائيلياً ولدى الأنظمة العربية السنية التي يؤكد نتنياهو منذ عام أو أكثر أنها أقرب إلى إسرائيل من أي وقت مضى دون أن يقابَل هذا الادعاء برد عربي ولو من باب الخجل السياسي.
لعقود من الزمان، تبنت منظمة التحرير برنامجاً سياسياً يطالب بدولة ديمقراطية علمانية لكل مواطنيها تمتد على كل شبر من أرض فلسطين التاريخية. لم يقبل العالم بهذا الحل الذي وُصم بالتطرف لأن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية تريد بقاء إسرائيل دولة لليهود وتريد إقناع نفسها أن هذه الدولة الإقصائية يمكن أن تُبقي على كذبة الديمقراطية إلى ما لا نهاية رغم ازدياد حجم الأقلية الفلسطينية داخل حدودها وتعاظم السياسات العنصرية والفاشية في نظامها. الخيارات في حينها كانت واضحة: إما تبني حل الدولتين الذي يتمثل في إقامة دولة فلسطينية على أقل من ثلث فلسطين التاريخية حتى يتمكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الطبيعي في تقرير المصير أو الإهمال الدولي حد النسيان والإنكار لشعب بأكمله. وعلى علاته، فإن حل الدولتين ما زال يمثل الخيار الوحيد الذي يمكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه الوطنية في السيادة والاستقلال والعيش بكرامة وهو حل لا يلغي إمكانية حل الدولة إذا افترضنا أن تحولاً جذرياً في نظرة إسرائيل العنصرية لنفسها ممكنٌ على المدى البعيد. ما يعزز هذا الاستنتاج هو إصرار العالم حتى الآن على غض الطرف عن طبيعة النظام الإسرائيلي العنصري تجاه مواطنيه وحقيقة أن هذه الدولة بوضعها الحالي لا يمكن أن تكون ديمقراطية بالمعنى الشامل ولا يمكن أن تقبل فكرة المساواة والتعددية بما يخل بنظام السيطرة والهيمنة اليهودية والصهيونية على طابع وهوية ورواية الدولة.
هذه الحقائق تفسر بشكل واضح أن خيار الدولة الذي ينوي ترامب ونتنياهو التوافق عليه لا يمكن أن يعني في أي حال من الأحوال دولة تضم الكل الفلسطيني أو تعترف بحقوقه الوطنية وروايته التاريخية. نحن على أعتاب أربع سنوات تتخطى وصف العجاف وتهدد بتجاهلنا ككيان سياسي والتعامل مع قضيتنا من خلال أطراف إقليمية لا حق لها في التصرف بمصيرنا. الحديث يدور على معادلات مختلفة وتسميات عديدة عنوانها نهاية المشروع الوطني الفلسطيني ومنع أي كيان فلسطيني مستقل من الوجود تحت شعارات مختلفة وفي صياغات متنوعة، جميعها يتكئ على قناعة إسرائيلية وأمريكية بأن المنظومة العربية جاهزة للحل الأشمل الذي يعيد ترتيب المنطقة ولو كان ذلك على حساب الشعب الفلسطيني.
المطلوب تعديل في التفكير والأداء الفلسطيني الذي يعتريه الكثير من الثغرات وأولها الانقسام. القرار الفلسطيني المستقل لم يحمل يوماً ثقلاً وأهمية كما هو اليوم ولم يستوجب وضوحاً في الموقف كما هو واجب اليوم. فلسطينياً، يجب أن يكون واضحاً أن اللعب على هذه الخيوط الإقليمية من قبل أي طرف فلسطيني في إطار التنافس السياسي هو طعنة في قلب المشروع الوطني وجب إفشالها مهما كان الثمن. في الإطار الإقليمي الدولي، يتوجب على فلسطين أن تعلي الصوت لا أن تخفضه وأن تكون جريئة ومبدعة في هجومها السياسي وبناء تحالفات جديدة وتعزيز تحالفات أخرى لمواجهة ما يحاك الآن في العلن بعد سنوات من الرياء والتستر.