الحدث
للشاعر: أنور الخطيب
الوحي
لم ينقطع الوحي مذ خلقت؛
يتنزل فوج من شياطين المنافي عند كل فجر
نحتسي قهوة الصحو بلا سكّر ولا قهوة
نشعل ما تبقى من تبغ الليل بأعواد ثقاب باردة،
نتبادل أطراف الوساوس بنوايا المهجّرين..
الطاعنين في الدروب،
ينتهي لقاؤنا الحميم بحمّى،
وإذ يجف عن الكلام العرق،
تهطل لغة محشوة بنوايا الغارقين بالنميمة.. والخيانة،
أفردها على رمل الصراط فتظهر من نصلها فراشات تعرّضن
للطعن في أيار،
نساء اغتصبن بالذخيرة الكاذبة،
وأطفال سيكبرون حاقدين،
يحملون مفاتيح أجدادهم في حقائب المدرسة،
تعينهم على دفع الوقت إلى حتفه..أو اغتصابه،
أو رميه خارج العمر..
.....
لم ينقطع الوحي بعد،
هذه وشاية الشياطين التائبين العائدين إلى مائهم الخليع،
شائعة أطلقها المرابطون عند عباءات النساء،
المستظلون بالشمعدان المقدس!
الحالمون بمعجزة تمسح أرض كنعان من جغرافيا الله،
لم ينقطع الوحيُ بعد،
لم يتبدّل مذ خلقت مشهدُ انتحار العصافير
فوق رؤوس السنابل،
لا زلت أرى أسئلة اليتم على الأراجيح،
لا زلت أرى أبي تحت تينة يركل المذياع بالحذاء القديم،
لا زلت أرى الزنيم يقود الجيوش إلى هزيمة القرى،
لا زلتُ أُحقن بالنار عند الكتابة،
تسيل الحروف مخنوقة من أصابعي وتجحظ بي،
تسألني عن معانٍ جرحتها مخالب الضباب
لا زلت مذ خُلقت أسير كل ولادة في جنازة شاب
لم يمت بعد،
أقرأ في وجوه الصبايا رجالا باكين..
ما زلت عاقاً وناشزا
لم أنقل رفاة جدتي إلى ظل زيتونة في شمال القلب،
ما زالت رائحتي مشبوهة عند الحدود،
لا يزال رقيب البلاهة يقرأ شِعري الغزلي
بعينين حاقدتين،
يبحث عن ثياب مموهة ومخربين،
.....
لم ينقطع الوحي بعد عني،
ولا عن أبي المتوفي بسكتة المنفيّ،
ولا عن أخي المدفون في الصحراء.. بداء الكبرياء،
ولا عن أمي التي قُتلت وهي تهذي بأمها،
وتعدُّنا راحلا راحلا قبل المغيب،
ولا عن جاري الذي أطلق الرصاص نحو السماء
بعد موت ابنه.. بحصبة اللجوء وسامحته الملائكة..
ولا عن صديقي الذي صرعته الذئاب في نفق مغلقٍ..
يقود إلى ذاكرة الحبق،
وحين عاد استقبله الشهداء عند المفترق..
.....
هو الوحي ذاته،
يهبط كالمذنّب المخاتل..
بريشة ممزقة وصحف ذابلة،
يفتح ألواح "الزينكو" المحفوظةِ في النسيان،
يكتب فيها لغة لا أفهمها
تلقي على كتفيّ الكلام الثقيل،
ألا تقطع الوحيَ يا إلهي كي آخذ بعض شهيق!
لم يعد في السهل من أصلّي خلفهم،
مسحوا الدم عن وجه أيار واستبدلوه بـ"الجدار"
سدوا منافذ الجرح،
لم يتركوا نفَقاً أسرب منه الملح
كي أصيح: ألا تقطع الوحي!