حسناً، هذا بوح إذن، أو لنقل أنه اعتراف، أنا في الحقيقة أميل إلى تسمية هذا الكلام "باعتراف" بكل ما تحمل كلمة اعتراف، من شوارعية ومباشرية، من معنى، بدلاً من "بوح" التي أراها رومانسية وسخيفة وزائدة عن الحاجة أمام طغيان الأولى، وأجدني في حيرة من أمري حول جدوى وضرورة اختراع تلك الكلمة المرتبكة والمتفذلكة، إذ أن الأمر كله يتجاوز "شوارعية" الأولى ورمانسية الثانية إلى اعتبار أن الأولى تحمل من المرونة اللغوية المحكية ما يجعلها أقرب إلى القلب واللسان على حد سواء. كلمة "اعتراف" صديقة حميمة لي، أجدها وتجدني أينما نذهب. أنا أصلاً شخص دائم الاعتراف، أميل إلى الاعتراف والكشف عن الضعف المروع الذي ينهش داخلي، الكشف سلاح قويّ أمام الانكسار والنكوص، أجد نفسي كثير الهشاشة والحساسية أمام النشاط الملفت للانتباه الذي يكسو عالم اليوم، لذلك أراني مصطفاً إلى جانب أكثر القضايا وجودية وبلادة وكسلاً من حولي، ففي الوقت الذي يتكلم فيه الجميع عن الأوطان والحروب والأديان والمستقبل المملوء بالنجاح والمال والتصفيق، أتحدث بلا انقطاع عن آلام الرأس والسعال والسجائر الرديئة التي لا أستغني عنها أبداً، عن الكسل والطعام وبرامج "الروجيم" الفاشلة، عن أكثر الأكلات التي لا تتسبب بجلطة مفاجئة في القلب، أو عن ليالٍ أقضيها أفكر في جدوى الذهاب إلى العمل، أو عن قدرتي المتهالكة بالاحتفاظ بالأصدقاء،... إلخ، كلمة اعتراف، تشبهني في حدتها القاطعة مثل سكين، أنا شخص عصابي ومزاجي بشكل لا يطاق، يتقلب المزاج عندي مثل فيلم تتحول أحداثه بشكل مفاجيء من رحلة هانئة يقوم بها أصدقاء إلى الجبال البعيدة لأغراض الاستمتاع بالطبيعة ليلاً، إلى أحداث مروعة ينتهي الأمر بأصحابها جثثاً في منازل آكلي لحوم البشر، مثلما حدث في سلسة أفلام الاتجاه الخاطئ "Wrong Turn".
قبل فترة كنت في حديث "شكوانيّ" قصير مع أحد الأصدقاء، قلنا فيه، إن الإنسان قد يتحول في لحظة، لحظة فارقة واحدة فقط، من شخص عادي جداً، يشتري الجريدة اليومية صباحاً ليقضي ما تبقى من النهار في قراءتها، إلى قاتل تبحث كل أذرع الدولة البوليسية عنه، تخيلت نفسي ذاهباً إلى بقالة قريبة، أطلب من صاحبها حفنة من المكسرات، يمر شخص فترتطم ذراعه في كتفي بشكل بريء فلا يعتذر، فندخل في شجار ينتهي بمقتل الشخص، وأثناء محاولة أحدهم إمساكي، أدفعه، فتهرسه سيارة مسرعة، وهكذا تصير الأحداث مثل سُبحة لا أحد يستطيع السيطرة على انفلات خرزاتها على الأرض، هذا موقف يتلبس عقلي ليل نهار، قبل عشر سنوات تقريباً، مازحت صديقاً لي حول رسائل قصيرة تأتي إلى هاتفه الشخصي، من حبيبته على أغلب الظن، غضب الصديق مني، وانتهى الأمر بلطمة كبيرة، أعتقد أنها آلمته كثيراً، حاولت الاعتذار بعد ذلك ولم يقبل الاعتذار، وصرنا أعداء، نتبادل نظرات حادة ومتوعدة في كل الأوقات، انكسر شيء ما جواني بيننا، ولن يعود كما كان.
أيام الجامعة، كنت جالساً مع أصدقاء لي في الكافاتيريا الجديدة، أطلق الطلبة عليها لسبب غامض اسم "المجمع"، دخلت طالبة رفقة صديقات لها إلى "المجمع"، بنت بيضاء ومتوسطة الطول، شدني وجهها، تقاسيم وجهها تحديداً، وصرت أخالها تنظر إليّ، وصرت أعتقد أننا نتبادل النظرات، استمر الأمر لوقت طويل، دون مبادرة مني، أو تقدم إلى الأمام، لاحقاً، عرفت صديقة مقربة لي أن أمراً ما يحدث، فاقترحت أن تتوسط في الأمر. أن تتوسط في الأمر يعني أن نسحب اللحظة إلى آخر حدود الاحتمالات الممكنة، أخافني الأمر في البداية، وأستسلمت لاحقاً لإغراء هذا الاقتراح العمليّ، بعد يومين تكلَّمَت الصديقة معها فرفضت البنت الفكرة كلها، ثم انكسر هذا الشيء الجواني. عندما تنكسر هذه القطعة، القطعة التي تعطي الأشياء طعمها ولونها ورائحتها، تصل أنت بنفسك إلى مكان لا تستطيع العودة منه، جزيرة مظلمة ومعزولة تماماً.
في الانتفاضة الأولى، كنا أطفالاً، جلسنا على مقعد خشبي على جانب الشارع العام، بعد وقت قصير وجدنا أنفسنا نلقي الحجارة على سيارات المستوطنين والجيش، أصابت حجارتنا مركبة الحاكم العسكري لقلقيلية، العميد زيد، هرعت عربات الجيش إلى الحيّ، وأخرجوا الرجال من منازلهم، ليلتها اشتكى أحد الجيران لوالدي مما حدث، هرع أبي غاضباً ولطمني على وجهي، لم أتكلم، ظللت صامتاً، أمضيت ثلاثة أيام أفتقد فيها تلك الأريحية في الحديث إليه، حطمت تلك اللطمة شيئاً ما بداخلي، شيئاً ما مجهولاً وغامضاً.
في الصف السابع الابتدائي، أسعفتني محبة الطلبة لي لأن أكون عريفاً للصف، انتخبني الصف كاملاً، فصرت فاسداً أُحابي الأصدقاء، وأشي بغيرهم. في انتخابات الإعادة، وكانت عند مطلع الفصل الدراسي الثاني، لم ينتخبني أحد، "سقطت" في الانتخابات وكانت تجربة فشل عارمة ومبكرة جداً، عندما أعلنت النتيجة طأطأت رأسي، ومشيت أعد البلاط الذي يفصل مكان وقوف العريف إلى الدرج المدرسي. كان المشوار طويلاً جداً. طويلاً لدرجة أن وقع الخطوات تلك، خطوات الفشل، لا زالت ترفرف مثل أسراب خفافيش فوق رأسي إلى الآن.
في النهاية، أجد نفسي دائماً منحازاً إلى كل الصراخ الذي يعتري الاعتراف، على براءة بعضه وخفة ظل صوته العالي، الحقائق كتب لها أن تقال بصوت واضح، عالٍ، وفوضوي مثل كلمة اعتراف تماماً، لا هامساً، ولا شموع تضيء مساحته المرتبة المملة في سياق كلمة بوح، وهكذا!