الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عدوى "حرب الكلب الثّانية"/ بقلم: طارق

حكاية العدد

2017-03-07 10:16:39 AM
عدوى
طارق عسراوي

 

كانت تلك كارثة مُحدقة، لا أحد يستطيع تسميتها غير “نهاية البشريّة” لو لم تكن مجرّد كابوس، وبشكل أدق عدّة كوابيس متتالية!

 

كعادته، بدا أنّه أفاق مع صحوة الشّمس، اغتسل، وأعدّ فنجان قهوته، ومن ثمّ ارتدى ثيابه ذاتها؛ بنطاله الجينز وكنزته الكمونيّة – سوف أحدّثكم حكاية الكنزة الكمّونية مستقبلًا – وخرج من البيت على قدميه.

كان ذلك عاديًّا جدًا، ولم أكن لأكتبه لولا ما حدث حين فُتح باب المصعد.

ضغط بإبهامه على كبسة استدعاء المصعد بنفس الطريقة التي يضعه فيها حين يبصم عند وصوله لعمله وفقًا للنّظام الذي استعاضت به المؤسّسة عن نظام التّوقيع اليدوي، لضمان عدم تسيّب الموظّفين، وربّما كان هو المقصود بكلمة “الموظّفين” التي قالها ربّ العمل، وهو ينظر إليه مباشرةً في اجتماع عُقد للعاملين بالمؤسّسة يومها.

دخل المصعد وألقى التّحيّة الصباحيّة دون أن ينظر إلى جاره، الّذي كان في المصعد لحظة وصوله، حيث قال “صباح الخير جار” وهو منشغل في إرسال رسالة نصيّة عبر هاتفه المحمول.

– أهلًا زياد، صباح النّور.

جاءه صوت جاره مُربِكًا.. كان الصوت مألوفًا بصورة غريبة، فلم يكن الصوت لجاره الذي يلتقيه في المصعد عادةً، رغم أنّ العبارة هي ذاتها التي يلقيها عليه حينما يتصادفان في المصعد.. كان الصّوت، صوته هو ولا أحد غيره.. صوت زياد نفسه!

بقي جاره ينظر إليه مصدومًا، وكان قد رجع خطوة إلى الخلف فالتصق في زاوية المصعد.

وزياد ينظر إلى وجه جاره مباشرة، وقد تيبّس جسده واتّسعت حدقتا عينيه! فقد كان جاره يشبهه تمامًا، لا بل، كان صورةً طبق الأصل عنه! وجهه الطّولي بعض الشّيء، وله ذقن خفيف، شعره الأسود مصفّفًا بطريقة مائلة، بشرته الحنطيّة، وجبينه الواسع المقوّس، أنفه الانسيابي.

ليس من المعقول أن تنتقل العدوى من الحكاية إليّ، فأغدو أنا الرّاوي، مُصابًا بتلك العدوى! لأصف لكم شكلي! أعني أوصاف زياد التي انتقلت إلى جاره بصورة غير مبرّرة!

لكن هذا بالضّبط الذي حدث!

لم يكن في المصعد مرايا كي يتمكّن الجار من البحث في وجهه عن سبب تيبّس زياد، فراح يتحسّس وجهه، بينما حواجبه ترتفع لا إراديًّا، حتّى كادت تلامس غرّته!

ما إنْ فُتح باب المصعد حتى خرج منه زياد جاريًا صوب الشّارع، وقفز في سيّارة أجرة صادف مرورها مع خروجه من البناية.

وشيئًا فشيئًا، كان زياد ينقل العدوى إلى كلّ مَن يشاهده، فما أن يقترب من أحدٍ حتّى تتبدّل ملامحه في ظاهرة هي الأغرب، حتّى يصبح نسخة طبق الأصل عنه! ولا يحتاج الشّبيه وقتًا طويلًا لينقل هو العدوى بدوره، فغدت المدينة، بوقت خيالي، نسخًا طبق الأصل عن زياد، ونسخًا طبق الأصل عن النّسخة الأولى.. أمّا زياد فكان يجري في المدينة من شارع إلى آخر مرعوبًا من أشباهه، الّذين انبلجوا من العدم في كلّ مكان!

اختفت فجأة من المدينة كافّة الظّواهر الجرميّة، التي كانت منتشرة. لقد أصاب النّاس ما جعل السّرقة وحوادث المرور وغيرها من الجرائم خارج اهتمام النّاس، حيث أضحى القتل هو الفعل الوحيد المتّفق عليه والمبرّر بين كلّ النّاس.. كلٌّ يقتل شبيهه، أي النّسخة طبق الأصل عن زياد!

قبل تلك الحادثة، كان النّاس يقتلون بعضهم بعضًا بسبب الاختلاف في آرائهم أو دياناتهم أو غيرها من الفروقات، التي سرعان ما تصبح خلافًا تنقسم بسببه النّاس، فتصير لهم أسباب وجيهة للقتل! لكن ما لم يستطع زياد تفسيره؛ هو السّبب الّذي يدفع النّاس لقتل بعضهم البعض، طالما أنّهم متشابهون إلى هذا الحد.. ويقصد نسخة طبق الأصل عنه، فما من شيء يختلفون حوله، وقد أصبحوا بصورة غريبة نسخًا متطابقة عن شخص واحد، يتشابهون ويتماثلون في كلّ شيء.. فلما يقتلون بعضهم! هل يعقل أن يقتل المرء نفسه لأنّها تشبهه!

لم يكن أمامه متّسع من الوقت للتّفكير بالأمر، فخلال وقت قصير انتشرت الجثث في الشّوارع، وقد زاد من رعبه رؤيته لجسده مُلقى في الشّارع مقتولًا بغير طريقة، فوق الرّصيف ممّددًا وهو مطعون في عنقه أمام السّوبرماركت، دمٌ ينزّ من ثقب في جبينه.. ممدّد بين مقعد السّائق والأرض، بينما باب المركبة مشرّع على آخره!

وحتّى ينجو من القتل قرّر الرّكض خارج المدينة صوب التلال الخالية من النّاس، حيث لم تصل يد الاسمنت الرماديّة إلى تلك التّلال بعد.

كان صوت لهاثه عاليًا وأنفاسه تتصاعد من صدره، وهو يحثٌّ قدميه صعودًا بين أشجار الزّيتون الرّوميّة، وحيث لم يعد بإمكانه التقاط أنفاسه، توقَّفَ حانيًا ظهره إلى الأمام مستندًا بذراعيه إلى ركبتيه.

في تلك الأثناء، سمع نباح كلب يقترب منه حيث يبدو مفترسًا من صوته، وهو الذي يخشى الكلاب منذ انقضّ عليه كلبٌ ضال في صغره، كاد افتراسه، لولا صوت أعيرة ناريّة أطلقت بالقرب من المكان، بسبب شِجار عائلتين اختلفتا حول موعد زفاف من المفترض أن يجعلهم أنسباء، وحين وصل صوت الكلب إلى حدّ ملامسته لأنفاسه، رفع رأسه ونظر في عينيه مباشرةً.. كادت روحه تفارق جسده، الذي ارتعش بقوّة، حين شهق عميقًا فأفاق من نومه!

كان جسده يتصبّب عرقًا، كأنّه منقوع في بركة ماء، وهو ممدّد على الكنبة الطّويلة في صالة بيته، وبالقرب من رأسه رواية تحمل عنوان “حرب الكلب الثّانية”.

***

 

بعيدًا عن هذه الحكاية، صدر للكاتب إبراهيم نصر الله، مؤخّرًا، رواية تحمل عنوان “حرب الكلب الثّانية”، هي واحدة من الأعمال الرّوائيّة المباغتة، التي لا يمكن أن تدور أحداثها إلّا في السّاعات الأخيرة من نهاية البشريّة، لا بل نهاية الكون برمّته.

وهنا فإنّني أسجّل رأيًا انطباعيًّا عن تلك الرّواية اللافتة والمختلفة، التي انتقلت منها العدوى بصورة لم تعرف أسبابها بعد إلى هذه الحكاية.

أخيرًا، عزيزي القارئ: إن لم تُصبك الحكاية/الرّواية بالعدوى، فيحقّ لك أن تعتبر اختلاف النّاس في طباعها وآرائها عنك سببًا وجيهًا للحياة، وذلك بعد أن تتحقّق من صورتك في المرآة، لتتأكّد أنّك لم تعد تشبه أحدهم “وهل يخطر ببالك أّننا مجرّد مرايا للمرايا التي نحدّق فيها؟”