في مرحلة خَلت ، من مراحل الحركة الأدبية العربية ، وأعني معظم سنوات النصف الثاني من القرن العشرين . كان مفهوم (الالتزام في الأدب) هو شعار المرحلة، أو فلنقل هو القانون الذي حدده معظم الأدباء العرب ـ ومعهم والفنانون ـ للإبداع تحت مظلته، أو هو الحقل الذي يمكنهم استزراع تربته بمختلف بذور الإبداع ، ولكن دون الخروج عن مساحتة المحددة بإطار، بلبجدار، وهو في نظر البعض تعلوه الأسلاك الشائكة التي يستحيل تجاوزها، كجدران السجون !
وإذا عدنا إلى المعنى اللغوي لكلمة الالتزام، نجد أنها تفيد (التعهد) ، وهذا يقودنا إلى المعنى الاصطلاحي للكلمة ، والذي يشير إلى (تعهد الكاتب أو الأديب بمبادئ معينة والدفاع عنها في أدبه في ظل صراع الأفكار).
والالتزام في الأدب ، في ظل صراع الأفكار ، يعني أن هذا المفهوم لا تنفصم عراه عن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من القضايا التي تهم المجتمع ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لكل مجتمع من المجتمعات خصوصيته وقضاياه الأكثر إلحاحاً ، والتي يعتبر التزام الأديب والفنان بها هو المقياس لتحديد مدى تمسكه بمفهوم (الالتزام في الأدب)، وبهذا المعنى كما أرى ـ فإن هذا المفهوم يختلف تبعاً لاعتبارات الزمان والمكان ، فاعتبارات المجتمع الروسي في أواخر العهد القيصري مثلاً ، في إطارها العام ، تختلف عن اعتبارات الشعب الفلسطيني في مرحلة التحرر الوطني على سبيل المثال ، مع ما يمكن أن يجمع بينهما من الجزئيات والتفاصيل ، ليس هذا فقط ، بل إن اعتبارات المجتمع الواحد تختلف ما بين مرحلة وأخرى ، وهذا لا يعرض المقاييس التي بموجبها يتم تحديد مفهوم (الالتزام في الأدب) إلى التغيير فحسب ، بل إن هذه الاعتبارات قد تؤثر على مدى التمسك بهذا (الالتزام) ، بمعناه المعروف ،من حيث المبدأ ، وهو الأمر الذي يتبدى لنا بوضوح عند المقارنة بين مدى تطبيق مفهوم ـ أو مبدأ ـ (الالتزام) في الأدب العربي ، والفلسطيني منه على وجه الخصوص ، قبل (اتفاقية أوسلو) وبعدها .
فقبل (أوسلو) كان الالتزام في الأدب هو السائد الأعمّ بين الأدباء الفلسطينيين ، وإلى جانبهم الكثير من الأدباء العرب الآخرين ، وخاصة في المشرق العربي ، وكانت الغالبية العظمى من الصحف والمجلات الفلسطينية ، على سبيل المثال ، لا تتعاطى مع النصوص التي تنشرها إلا وفق هذا المقياس ، أي أنها تعمل على نشر النصوص التي تبرز الواقع الفلسطيني بما فيه من نكبة ونكسة وتشرد وتشتت ولجوء وفقدان وحرمان وألم وأمل وصمود وإثبات وجود وثورة.
أما بعد (أوسلو) ، ولأسباب عديدة لا مجال لذكرها الآن ، فقد تحرر الكثير من الأدباء من (قيود) الالتزام في الأدب ، وقفزوا عن الأسلاك الشائكة التي تعلو جدار حقله خارجين منه نحو مساحات أخرى في عالم الأدب والإبداع ، فالإبداع له مقاييس نقدية ، وسواء أشئنا أم أبينا ليس من ضمنها (الالتزام).
والآن ، ونحن في واقع التردد بين أفضلية الالتزام في الأدب بالنسبة للبعض وأفضلية التحرر من قيده بالنسبة للبعض الآخر ، رب سائل : وما الطريق الأفضل والنهج الأمثل ؟
إنني أعتقد ، كما اعتقدت دائماً ، أن المرحلة تفرض علينا أن نأخذ بمفهوم الالتزام في الأدب ، بل أن نجعل منه مبدأنا الذي نسير وفقه ، طالما أننا ننتمي إلى جماعة ووطن وأمة ، بل طالما أننا ننتمي إلى الإنسان أينما كان ، ومع هذا وما دمنا نتحدث عن الإنسان ، وعن الإنسانية ، فيجب علينا أن نتذكر أن الأديب والفنان هو إنسان أيضاً ، وأن لديه من المشاعر والأحاسيس الكثير ، بعضها يحمل الطابع العام ، المشترك مع أبناء الوطن والأمة والإنسانية ، وبعضها يحمل الطابع الإنساني الخاص ، وهي المشاعر التي من الإجحاف أن نهضمه حقه في التعبير عنها بقدراته الفنية ، وطاقاته الإبداعية ، وإلا نكون قد حرمناه من الحرية التي ينادي بها من أجلنا !