هذه الـ "ولكن" هي موضوع مقالتي، وهي بيت القصيد في معالجة قضية انقسم القوم حولها بين داعم ومعطل.
الداعم من منطلق أنّ كل ما يرفضه المعترضون هو على حق، والمعترض بالمقابل يرفض كل ما يتخذه خصمه ويعتبره باطلاً، وبين المنطقين المدعومين بقوىً سياسية وازنة، تتلبد الأجواء بالغيوم، وتسود البلبلة أوساط الجمهور الكريم، الذي ابتلي منذ سنوات طويلة بتلقي نتائج صراعات الآخرين واقتتالهم، وهو من أجنداتهم براء.
أكبر مثلبة تمس الديموقراطية في جوهرها هي انتقائية الانتخابات، وتوريط صندوق الاقتراع في حسابات القوى، ما يجعله حقيقة أخطر الوسائل الديموقراطية لتكريس الديكتاتورية، ذلك أن الانتخابات الانتقائية التي تتخذ قرارات إجرائها إيجاباً وسلباً، قوىً متصارعة على السلطة، لا بد وأن تفقد مصداقيتها واقتناع الناس بها.
ومن المؤسف حقاً أن يكون صندوق الاقتراع الذي جعلناه في بداية تجربة سلطتنا، أساساً دستورياً لبناء نظام عصري، تحوّل بفعل الصراع الداخلي إلى لعبة تكتيكية لا صلة لها بالخلفيات والأهداف السامية لهذا الصندوق وأساسية دوره في تداول السلطة.
بدأت ترتيبات إجراء الانتخابات المحلية، ولا بد أن يتزاحم كثيرون في سباق من أجل الفوز في المقاعد الكثيرة لقيادة المجالس المحلية، وفي موسم الانتخابات يتحمس من يتحمس، ويقاطع من يقاطع، وفي نهاية المطاف سيقول الفائزون لقد أتينا إلى المواقع من خلال ديموقراطية شفافة، أما المقاطعون فسوف يقولون العكس، أي أنها لم تكن انتخابات حقيقية، لا شفافة ولا نزيهة، وهنا يظهر المأزق الذي صنعناه بأيدينا، والذي قسم الناس إلى قسمين، سلبي وايجابي، مزيف وحقيقي.
كلمة السر في هذا المأزق ليست الانقسام السياسي ولا تصارع الأجندات ولا اختلاف البرامج، فذلك موجود في كل مكان على وجه الأرض، كلمة السر الحقيقة هي عدم تحديد مواعيد ملزمة لإجراء الانتخابات، بدءاً من الرئاسية ثم التشريعية ثم المحلية، ولا يستثنى من ذلك بالطبع الانتخابات النقابية، ويفترض كذلك ألا تستثنى الفصائل من هذا المبدأ الذي لم يخترع غيره لمنح شرعية للنظام السياسي بإجماله.
الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها والتي بدأت الترتيبات والتحضيرات لها لن تكون دعامة للديموقراطية والحداثة، أن لم تكن ضمن منظومة انتخابات يقررها القانون ويحمي إجراءاتها، ويؤكد شرعية نتائجها، دون ذلك، أو حتى لو فقد عنصر من عناصر المنظومة الانتخابية الديموقراطية، فإن الإناء الديموقراطي سيكون مثقوباً، ولا يجمع أي قدر من الماء.
كنا نأمل وما زلنا أن تطرح السلطة الوطنية "الحكومة والرئاسة" مبادرة انتخابية أكثر اتساعاً من مجرد الاكتفاء بالانتخابات المحلية، فمثلما تجرأت الحكومة على إجراء الانتخابات المحلية في الضفة وتأجيلها في غزة، فلمَ لا تكمل المشوار، وتفعل نفس الشيء مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية؟ فدوافع إجراء هذه الانتخابات أكثر إلحاحاً من غيرها، ومبررات إلغائها تحت مصطلح تأجيلها، لن تكون ذات صدقية عند الرأي العام، الذي يرى المأزق السياسي الذي نحن فيه، ولا يرى غير قوى سياسية ليس لها من هم إلا التفتيش عن ذرائع لتفادي صندوق الاقتراع، وبدائل لا تنتج إلا استنساخاً لخلودهم في المواقع ليس إلا.
الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة لمنح الشرعية حين لا تتعرض لاستثناءات الأجندات، وتصبح تكريساً للجمود واللاديموقراطية، حين تكون انتقائية تقودها مصالح الأطراف المتصارعة وحساباتها وليس القانون الملزم للجميع.
أخيراً... لم يفت الوقت بعد، على تقرير موعد ملزم للانتخابات الرئاسية والتشريعية، ولدينا متسع من الوقت لإقناع كافة القوى للمشاركة في هذه الانتخابات، فمن يشارك يدخل السباق الشرعي للظفر بالقيادة، ومن يستنكف تحت أي ذريعة كانت، يكون هو من أخرج نفسه من السباق، ولن يكون لموقفه قدر من المصداقية يقتنع به الناس.