اعتبرت السلطة الوطنية الفلسطينية منذ مجيئها قضية المرأة الفلسطينية قضية وطنية ومجتمعية ما فرض عليها أن تلعب دوراً مركزيًّا وحيويًّا من أجل ضمان النهوض بأوضاع المرأة الفلسطينية، وتطبيقاً لتنفيذ إعلان بيجين، اكتسبت الآليات الوطنية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة للسلطة الوطنية الفلسطينية أهمية متزايدة في ظل الجهود المبذولة لتقليص الفجوة بين الجنسين؛ وهو ما يتطلب توفر الإرادة السياسية التي تعتبر قضية المرأة ذات أولوية وحاجة تنموية.
وقد قطعت هذه الآليات عدة مراحل واجهت خلالها العديد من العقبات، حيث أنَّ خصوصية الحالة الفلسطينية تثير العديد من التساؤلات حول إمكانية تقييم أوضاع المرأة الفلسطينية في ظل سلطة منقوصة السيادة والصلاحيات، وتجعل مقارنة التجربة الفلسطينية الاستثنائية مع غيرها من تجارب الدول في مضمار الآليات الوطنية صعبة إلى حدٍّ بعيد، ففي ظل عدم وضوح طبيعة المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، بين الانتقال من مرحلة الثورة وبداية ظهور مرحلة السلطة التي اضطلعت بمهام بناء المؤسسات وصولاً إلى مرحلة قيام الدولة، لا بد من الاعتراف بأنَّ تبني مسار الآليات الوطنية للنهوض بالمرأة على المستوى الفلسطيني تطبيقاً لمنهاج عمل بيجين وأسوة بالتجارب الدولية والإقليمية الذي تجلى بإحداث بعض التغييرات على مستوى المؤسسات والتشريعات والسياسات والخطط التنموية، لم يحقق التغيير المطلوب والمتوقع منه، كون ما تم إنجازه في هذا المضمار لم يؤدِّ إلى تقليص الفجوة بين النوع الاجتماعي، سواء في مجال استحداث بعض المؤسسات والوحدات المعنية بالنهوض بوضع المرأة، أو من خلال سن تشريعات جديدة وإجراء تعديلات على البعض الآخر، أو حتى من خلال تولي بعض النساء لمراكز قيادية متقدمة في إطار السلطة الوطنية الفلسطينية، كما أنَّ ذلك لم يتحقق أيضًا في محاولة جعل المرأة شريكًا في العملية التنموية ووضع السياسات والخطط الوطنية.
لو بحثنا في أسباب ذلك؛ لوجدنا أنَّ السبب الرئيسي قد يتجلى في عدم توفر الإرادة السياسية اللازمة لقيادة هذا التغيير، وقد لا يبدو هذا الأمر مستغربا أيضًا، والمتتبع لتاريخ النضال الوطني الفلسطينية يدرك بأنَّ الحركة النسوية الفلسطينية خلال مشاركتها في النضال وعملية التحرر تبنت أجندة وطنية على حساب الأجندة النسوية،على اعتبار أنَّ متطلبات المرحلة فرضت التغاضي عن بعض القضايا الخاصة بالمرأة، وتأجيل المطالبة بحقوق المرأة إلى حين الحصول على التحرر وبناء الدولة، وبالتالي كانت خبرة النساء القياديات في عملية التحرر الوطني أعلى من خبرتهن في عملية التحرر الاجتماعي، ومن هنا يمكن القول بأنَّ خبرتهن في وضع استراتيجيات وخطط وطنية للنهوض بأوضاع المرأة كانت أقل من المستوى المطلوب، خاصة في ظل التطورات الدولية المتسارعة على صعيد تناول قضايا المرأة، خاصة فيما يتعلق بدمج منظور النوع الاجتماعي في التيار الرئيسي للتنمية.
من هنا نجد أنه وبالرغم من تعدد أشكال الآليات التي أنشأتها الحكومة الفلسطينية والتي اعتقدت أنها ستنهض من خلالها بأوضاع المرأة الفلسطينية، سيما ما يتعلق بإنشاء وحدات المرأة في الوزارات ومن ثم استحداث وزارة خاصة بشؤون المرأة، إلا أنها واجهت الكثير من الصعوبات والتحديات التي حالت دون قيامها بمهامها وتحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها، فمن الناحية القانونية وبالرغم من قيام السلطة الوطنية الفلسطينية بإعداد وإقرار وتعديل مجموعة من التشريعات التي حاولت أن تأخذ مصالح المرأة الفلسطينية بعين الاعتبار، إلاّ أنَّ رزمة التشريعات المطلوبة في هذا الإطار لم تكتمل بعد، حيث لا تزال هناك الكثير من القوانين التمييزية سارية في الأراضي الفلسطينية، وهناك العديد من التشريعات التي تم سنها أو تعديلها لكنها لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ في أحيان كثيرة.
أما في مجال التنمية فقد تم تبني وإعداد عدد من خطط التنمية الفلسطينية إلا أننا نجد أنَّ هذه الخطط لم تتضمن المصالح الإستراتيجية للمرأة بالشكل الذي يعمل على تحسين وتغيير أوضاعها، كما أنَّ الموازنة العامة للحكومة، والتي تعتبر إحدى أهم الأدوات الحكومية التي تعبر عن السياسات، تشير حتى الآن إلى عدم الاستجابة بالقدر المطلوب للنوع الاجتماعي، هذا بالإضافة إلى وجود استراتجيات وخطط عمل متعددة تهدف للنهوض بأوضاع المرأة، والتي يتم إعدادها على المستوى الحكومي والأهلي، إلا أنه بالمقابل يُلاحظ عدم وجود خطة شاملة للنهوض بأوضاع المرأة الفلسطينية.
كما أننا وفي هذا المجال لا نريد أن نُعفي مؤسسات المجتمع المدني من دورها في إحداث التغيير المطلوب؛ حيث كان ضعف التنسيق والتشبيك بين مؤسسات السلطة التي يفترض أن تكون الفاعل الرئيس في توجيه عملية التغيير الإجتماعي وبين الشركاء الآخرين من مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية التي تنشط في هذا المجال.
من أهم الأسباب التي أدت إلى عدم إحداث التغيير المرجو، خاصة وأنها لم تؤد الدور المطلوب منها بفعالية من أجل زيادة الوعي اللازم لمحاربة العوامل الثقافية والاجتماعية التي تميز ضد المرأة وتقف حائلاً أمام الجهود الرامية للنهوض بأوضاعها وتحقيق المساواة وتقليص الفجوة بين النوع الاجتماعي.
كما أنَّ دور المجتمع المدني في مرحلة إعداد الموازنة يتمثل في إعداد الأبحاث حول تأثير الموازنة على المساواة من منظور النوع الإجتماعي، أو المشاركة في جلسات إستماع عامة عند مناقشة الموازنة في المجلس التشريعي حيث يكون المجال متاحا أمام المجتمع المدني لعمل الكثير من الأنشطة التوعوية والأبحاث والدراسات التي تروج لفكرة ما أو تدافع عن مشروع أو مخصصات محددة، كذلك يكون لها أنشطة تعبئة وتأثير على أعضاء البرلمان حول الفجوات والإشكاليات المتعلقة بالموازنة، وهذا ما لم تهتم به مؤسسات المجتمع المدني لتقصير منها أو لانقطاع جلسات المجلس التشريعي لسنوات عديدة.
من ناحية أخرى.. فقد اتسمت العلاقة السائدة بين وزارة شؤون المرأة والمنظمات والأطر النسوية ومنظمات المجتمع المدني بالضبابية وعدم الوضوح في بعض الأحيان وبالتوتر في أحيان أخرى، سيما في المراحل الأولى لإنشاء الوزارة، ويمكن تفسير طبيعة ما اتسمت به بدايات هذه العلاقة من خلال تتبع دور ونشاط مؤسسات المجتمع المدني والأطر النسوية في مجال النهوض بأوضاع المرأة، والتي تسبق الوزارة عادة في تناول ومعالجة قضايا المرأة، حيث لعبت منظمات المجتمع المدني والأطر النسوية دورا رياديا هاما في عملية النهوض بوضع المرأة الفلسطينية طوال سنوات الاحتلال وقبل نشأة السلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها، الأمر الذي رسّخ حضور هذه المنظمات والأطر النسوية داخل المجتمع الفلسطيني، حيث استطاعت من خلال عملها وبرامجها ان تنال القوة والثقة، وبالتالي كان من الصعب لأية مؤسسة أو إطار جديد ان يشق طريقه في قطاع عمل المرأة بمعزل عن تبديد شكوك ومخاوف وتعاون المؤسسات والأطر النسوية.
وعلى الرغم من ذلك فإنه خلال الاعوام الاخيرة يمكن ملاحظة بوادر تعزيز التعاون بين الوزارة ومؤسسات المجتمع المدني، حيث بدأت هذه العلاقة تترسم نحو الإتجاه لتكون علاقة تكاملية، ويبرز هذا بوضوح في خطة عمل الوزارة، حيث سعت الوزارة الى تطوير وثيقة تفاهم مع المجتمع المدني لبحث آليات الدعم والمتابعة للفعاليات والمشاريع ذات العلاقة بأولويات الوزارة.
في النهاية فإن استمرار وجود الاحتلال بكل انعكاساته وتأثيراته، وحداثة التجربة الفلسطينية سواء في إطار بناء مؤسسات السلطة، أو في تبني وإنشاء الآليات الوطنية للنهوض بأوضاع المرأة الفلسطينية، تعتبر من العوامل التي ما زالت تحول دون انجاز التنفيذ الكامل لكل الخطط والبرامج الوطنية الخاصة بالنهوض بأوضاع المرأة الفلسطينية وتقليل فجوة النوع الاجتماعي.