انظروا إلى خريطة الضِّفة الغربيَّة المُبْرْقَعة التي تنشرها إسرائيل رسميَّاً ومنذ وقتٍ طويل، والموجود منها نسخ حتَّى في دائرة المساحة الفلسطينيَّة في رام الله، ألا تُشْبِهُ جلد النِّمر المُرَقَّط؟! إنَّها كذلك بكلِّ تأكيد، فهي مبرقَعة بالألوان التي تُستخدم كدليل ومفتاح خارطة لتصنيف مناطق (أ) و(ب) و(ج)، ولتصنيف مسارات الطُّرق الالتفافيَّة وهوامشها المقترحة، ولتوضيح أماكن تواجد الكتل الاستيطانيَّة وهوامشها المستقبليَّة.. تلك كانت خارطة اقترحها ابتداءً الجنرال إسحق مردخاي قائد المنطقة الجنوبيَّة في وزارة الدِّفاع الإسرائيليَّة مطلع الثَّمانينيَّات من القرن الماضي. وقد سُمِّيَت حينها "بخطَّة جلد النِّمر المُرَقَّط".
من الواضح أنَّ إسرائيل تستعدُ لأنْ تَصْفقَ الباب وراءَ رؤية وخيار حل الدولتين صَفْقَةً يسمع دويَّها العالم بأسره، مخرجة ذلك الخيار من "كِردور" المفاوضات بعد أنْ أبدى الفلسطينيون ضجرهم من السيرِ الطويل المُمِلِّ والمحبطِ بين جدرانه الصَّماء وسقفه المنخفض طوال قرابة الرُّبع قرن حتَّى الآن.
نجحت إسرائيل في خداع الجميع وفي استثمار الوقت بعد أن جرجر الجميع ضجرهم من جولات مفاوضاتٍ لا تنتهي، أقامت إسرائيل خلالها سدَّاً منيعاً من سلطة وسطوة الأمر الواقع الَّتي فرضها وجود وتنامي الكتل الاستيطانيَّة في طولِ البلادِ وعرضها، إضافةً إلى تنصُّلها النِّهائي من كثيرٍ من الالتزامات التي فرضتها تفاهمات وملاحق اتفاقات أوسلو والقاهرة مطلع التِّسعينيَّات من القرن الماضي، وبدا واضحاً، مع مرور الوقت، أنَّ كلَّ المكبوتات في صميم السياسات الإسرائيليَّة تجاه عملية التسوية قد تلاشت، وأنَّ النَّوايا المسبقة والخطط المواربة الَّتي كانت في جعبة اليمين واليسار في إسرائيل على حدٍّ سواء حيال الحل النهائي مع الفلسطينيين، قد بات من الممكن الإفصاح عنها دونما إعارة الاهتمام للشعور باليأس والغضب الذي يتملَّك الفلسطينيين، أو للاحتجاج والتَّبرُّم الإقليمي والدَّولي نتيجة الإفصاح عنها أو وضعها فعليَّاً موضع التطبيق النهائي الذي لا رجعة عنه إسرائيلياً.
فما عاد اليمين في إسرائيل يطيقُ الاستمرار في التردد الذي يعتبره من عدوى ومفاعيل سياسات اليسار، وما عاد اليسار يملك خياراً سوى مجاملة اليمين والتَّماهي مع سياساته، وربما أحياناً محاولة المزايدة عليه فيما يتصل بموضوع السلام مع الفلسطينيين. ويشعر اليمين وبشكلٍ مضَّطَرِد بأنَّ الغماماتِ العابرة من سوءِ التَّفاهم بين إسرائيل والولايات المتَّحِدة حيال موضوع الاستيطان والمفاوضات في طريقها إلى الزَّوال النِّهائي من سماء العلاقات الأمريكيَّة الإسرائيليَّة، تدفعها رياحُ إدارة دونالد ترامب الجديدة. وما الفارق بين ما يقوله أفيغدور ليبرمان حول موضوع حل الدولتين والاستيطان، وبين ما يقوله "حاييم هرتسوغ" زعيم التَّجمع الصهيوني برئاسة حزب العمل حول نفس الموضوع؟! فالأوَّل يقول: "لا يمكننا بناء مستوطنات جديدة دون التَّنسيق مع الولايات المتَّحدة، وإذا أصرَّت الولايات المتحدة على الاستمرار في مناقشة حل الدولتين بصيغٍ جديدة تضمن بقاء المستوطنات، فعلينا أن نتعاون معها في ذلك". والأخير يقول في رؤيةٍ قدَّمها قبل أيامٍ قليلة تعبِّرُ بشكلٍ رسميٍّ عن رؤية تجمُّعه الحزبي المُكَوَّن من أطياف اليسار: "إنَّ حل الدَّولتين يجب أن يتضمَّن احتفاظ إسرائيل بالكتل الاستيطانيَّة وضمِّها إلى دولة إسرائيل".
لا بأس من التَّذكير دوماً، وفي كلِّ مناسبة بأصلانيَّة ومنهجية السياسات الإسرائيليَّة حيال إدارة الصراع مع الفلسطينيين، وحيال رؤية إسرائيل لمستقبل علاقاتها بأراضي الضِّفة الغربيَّة والقدس، فقد تمّ التَّغاضي في السَّابق تماماً عمَّا قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين في السِّجال الذي كان يجري بين اليمين واليسار حول رؤيته لمستقبل الحل النهائي مع الفلسطينيين بعيد التوقيع على اتفاقيَّة إعلان المبادىء في حديقة البيت الأبيض في واشنطن في 13/09/1993، وهو أساساً من أبرم تفاهمات أوسلو مع قيادة منظمة التحرير، وقد جرى الالتزام به حرفيَّاً حتَّى الآن، وقد قال رابين في حينه: "سقف الحل النهائي مع الفلسطينيين هو، لا عودة لحدود عام 1967، ووادي الأردن هو الحد الشرقي لإسرائيل، والقدس هي عاصمة إسرائيل الموحَّدة وإلى الأبد، وليس هناك أي إمكانيَّة لإزالة الاستيطان الأمني في يهودا والسَّامرة وغور الأردن"، وقد ميَّزَ رابين حينئذٍ بين نوعين من الاستيطان، فاعتبر أنَّ الكتل الاستيطانيَّة الكبيرة في جنوب الضِّفة الغربيَّة وحول القدس وفي الأغوار من نوع الاستيطان الأمني الذي لا يمكن المساس به نتيجة أي مفاوضات، وهو غير خاضع للنقاش، فيما الاستيطان الهامشي في شمال الضِّفة الغربية هو من نوع الاستيطان السياسي الذي من الممكن مناقشة أمره والتراجع عنه، وقد ألمح رابين حينها أن المقصود من وراء إقامة هذا الاستيطان الهامشي كان أصلاً بهدف استخدامه أثناء عملية إدارة المفاوضات حول مستقبل الضِّفة الغربية بحيث يمكن التخلِّي عنه لقاء تنازلاتٍ يقدمها الفلسطينيون، وبما يظهر وكأنَّه تنازلات إسرائيليَّة مؤلمة.
وبالعودةِ إلى خارطة جلد النمر المُرقَّط؛ فلم تكن تلك الخريطة إبداعاً للجنرال إسحق مُردخاي وحده؛ فقد سبقه إلى ذلك جنرال آخر هو "دافيد كيمحي" مع مجموعةٍ من الجنرالات في هيئة أركان الجيش الإسرائيلي في أواخر حزيران عام 1967، أي بعد أن وضعت حرب عام 67 أوزارها بأيَّامٍ قليلة، وقد تضمَّن اقتراح دافيد كيمحي حينها، والمقدَّم لوزارة الدِّفاع برئاسة موشيه ديَّان، رؤيةً لخريطةٍ يتمُّ على ضوئها تنظيم أماكن تواجد وسيطرة القوَّات الإسرائيليَّة وسلطات الحكم العسكري، ونقل أخرى لسلطة حكم ذاتي إداري فلسطيني، ضمن مناطق صُنِّفتْ في تلك الخريطة بمناطق (أ) و(ب) و(ج). تأتي الإشارة إلى تلك الخطَّة تحت بند بعنوان "سرِّي للغاية" من وثائق وزارة الدِّفاع الإسرائيليَّة في هوامش وملاحق كتاب "عوديت رازنطال" بعنوان: "أسياد البلاد.. الاستيطان في أرض إسرائيل" الصَّادر عام 2006.