التَّحديات تصنع مزيداً من الفرص، هذا صحيح، ولكن ذلك يصح لمن لديه القدرة على امتلاك زمام المبادرة من جديد، وليسَ لمن يغرق بالعجز وفوضى الخيارات، فالعاجز تمثل التحديات له في الغالب مزيداً من الإخفاقات. ثمَّة ركام من الإخفاقات على الصَّعيد الفلسطيني والعربي فيما يخصُّ القضية الفلسطينيَّة، وثمَّة القليل جدَّاً من عناوين تجاوز التَّحديات المفروضة. لقد تغيَّرت البيئة الدَّوليَّة كثيراً وبعمق خلال العقود الثلاثة الماضية، تلك التغيرات مثَّلت تحديات كبيرة، وفي نفس الوقت مثَّلت فُرصاً، لكنَّها وللأسف مثلت إخفاقات على الصعيد العربي والفلسطيني في إضاعة الفرص، ومزيداً من انتهاز الفرص واستثمارها من جانب إسرائيل، هذه هي الحقيقة ومن أراد الاستعاضة عنها بالتمسك بالمقولات والشعارات والمفاهيم التي ليس لها واقع، واستمرار اجترار رؤية التجربة والإخفاقات على أساس كونها نجاحات؛ فهذا شأنه.
بالأمس القريب قال "أفيغدور ليبرمان" إنَّ الحل الوحيد مع الفلسطينيين هو تبادل أراضٍ وسكَّان وليس غير. تصريح "أفغدور ليبرمان" فجّ لكنه صريح وحقيقي، وهو يعكس قناعة ورؤية ويعبِّر عن منهجيَّة إسرائيليَّة تجد لها تعبيرات وترجمة يوميَّة فوق هضاب وتلال الضِّفة الغربيَّة وفي القدس، وتجدُ لها تعبيراً مُتَّسِقاً في السياسات الإسرائيليَّة وتُواجَه بمزيدٍ من العجز والانقسام الفلسطيني وتنازع الشَّرعيَّات ومحاولة التَّفرُّد بالخيارات والمكاسب النَّخبويَّة والفئويَّة والحزبيَّة على صعيدي الطَّرَفين المنقسِمَيْن في الضِّفة الغربيَّة وقطاع غزَّة، وبمزيدٍ من دفن الرأس في الرِّمال المتحرِّكة للبيئة الدَّوليَّة الَّتي تتحرك منذ عقود لغير صالح القضية الفلسطينيَّة.
كان أوان استخلاص العِبَرْ يفوتُ دائماً، هذا هو الموقف الانطباعي الَّذي ميَّز الرؤيَة للتجربة الفلسطينيَّة من الدَّاخل والخارج على حدٍّ سواء، وهكذا كانت هذه المقولة أحد المُتلازمات التَّاريخيَّة للتجربة الوطنيَّة الفلسطينيَّة منذ ثورة عام 1936 على الأقل وحتَّى الآنْ. فيما كانت مقولة استخلاص العبر أحد مكوِّنات العقل السياسي والمنهج الإعلامي الإسرائيلي، وأحد دالَّات البرنامج السياسي الإسرائيلي، وربما كان ذلك له صلَة أكيدة بكيفيَّة وآليَّة اتِّخاذ القرارات في كلا الجانبين وعلى صعيد كلا المقلبين والمشهدين المتناقضين، عِوَضَاً عمَّا كان يفرضه الخلل الدَّائم في ميزان القوى.
هناك في الجانب الإسرائيلي كان يتمُّ اتِّخاذ القرار تجاه جملة من التغيرات المنهجيَّة في مسار الصِّراع بعد أنْ تخضع للنقاش المستفيض، وبعد أنْ يتم المساهمة في صياغتها من قِبَلِ كل الجهات والمؤسَّسات التي لها أوزان نسبيَّة معلومة ومتَّفَقٌ عليها إسرائيليَّاً، بدءاً بالمجلس الوزاري المصغَّر، ثمَّ المُوسَّع مروراً بالكنيست، وليس انتهاءً بمؤسَّسات الأمن والهستدروت وحتَّى الوكالة اليهوديَّة ومؤسَّسات الدّاَيْسَبورا (الشَّتات) في الخارج، وكان وما زال لا يُعلَن عن تلك القرارات إلَّا بعد أن تخضع للمصادقة عبر تلك المؤسَّسات، ولا يتم تنفيذها إلَّا بعد أنْ تتأكَّد إسرائيل من أنَّ الظُّروف مواتية لوضعها موضع التَّطبيق. حصل ذلك فيما خصَّ معاهدة السَّلام مع مصر، وفيما خصَّ اتِّفاق أوسلو. في الجانب الفلسطيني كان يتمُّ صياغة التَّوجُّهات واتِّخاذ القرارات النِّهائيَّة بشأنها والإعلان عنها وجعلها كخيارات لا فِكاك منها ثمَّ يتم إخضاعها للنقاش لهدف وحيد هو حصولها على الشرعيَّة وتمريرها. حصل ذلك فيما الاعتراف بقراريْ 242 و 338 وبما يخصُّ اتفاق أوسلو وإلغاء بعض بنود الميثاق الوطني الفلسطيني على سبيل المثال.
هناك في الجانب الإسرائيلي كانت الخيارات أسيرة القرارات المُتأنِّيَة المستندة إلى مفاعيل القوَّة وعوامل التَّفَوُّق، وهنا في الجانب الفلسطيني كانت القرارات أسيرة الخيارات المحدودة المستندة إلى عوامل الضَّعف والإخفاقات المتكررة، والتَّفكك في البيئة الدَّاخليَّة وفي المناخ العربي.
لذا فليس من الواضح ما إذا كانت تحديات تفرضها رؤية كالَّتي أعاد التعبير عنها "أفيغدور ليبرمان" قبل أيَّام ستفتح أمام إسرائيل مزيداً من الفرص لفرض شروطها الَّتي طالما أحسنت فرضها واقعيَّاً، أمْ أنَّها سَتُمثِّل فرصةً أمام الفلسطينيين لمراجعة خياراتهم، ومغادرة منهج التَّلَهِّي بثقافة إنكار الواقع، أو الاستمرار باجترار مقولة "لقد فات أوان استخلاص العبر.. ولمْ يبقَ ثمَّة خيارات غير ما يفرضه الواقع؟"