إنَّ اشتمالَ أدبٍ ما على مفارقة يستدعي أنْ تتجاوز هذه الأخيرة شكلها السلوكيّ والكلاميّ العادي (الشفهي) الذي تفرضه المقامات التواصلية، وأنْ تظهرَ بلبوسٍ مختلفٍ تقتضيه طبيعةُ الأدبية. فالأدبُ-كما يرى رولان بارث-"ليس تواصلاً وإنما هو لغة" ( جوف، فانسان. الأدب عند رولان بارت. تر: عبد الرحمن بوعلي. دار الحوار، اللاذقية-سورية، الطبعة الأولى؛ 2004. ص:24.) تتحددُ من خلالها خصائصهُ الشكلية، ويسلمُ بواسطتها من أيِّ تورّط في التسلّط السوسيوتاريخي أو في الإرغام الأيديولوجيٍّ. ومعنى هذا بأنَّ على المفارقة الأدبية أنْ تتجلَّى في نسيج النص متواشجة مع بنياته الأسلوبية والدلالية أي مع العناصر التي تمنحه خصوصيته النصية والأجناسيَّة. وإذا لم تحقق هذا ستظلُّ عارضا لا جوهر فيه، وتبدو سطحية هزيلة لا تضيف أيَّ شيءٍ إلى الأفق الجماليِّ والدلاليِّ الموجود أصلا في الأعمال الأدبية. وما دام الأدب"ينبع من منطق رمزي مكوّنٍ للإنسانيّ" (جوف، فانسان. الأدب عند رولان بارت. ص:34.) فإنَّ أيَّ ظاهرة-ومنها المفارقة-لا تنبع من المنطق نفسه ولا تتصفُ بالرمزية الكفيلة بتحقيق الإيحائية، تعتبر ظاهرة مقحمة على الأدب غير مناسبة لطبيعته ولزاوية رؤيته إلى الأشياء والعالم.
ولا ريبَ إذن بأنَّ انطلاق الأدب من قناعة تفترض تجاوز الكائن والمتحقق واقعيا، وتروم السعيَ إلى الممكن والوشيكِ والمسكوت عنه، يجعلُ منه فنَّ المفارقة الأول بامتياز؛ مادامَ-الأدب-لا ينطلق من الواقع الكائن إلا ليعدُوه إلى الكشف عن الممكن، ولا يبتدِئ من قناعة أو بديهة إلا ليطرح الأسئلة المربكة التي تخلخل البنى العقلية والفنية القديمة فتنفتح على الجديد. وانطلاقا من هذا"يعتبر أدب المفارقة بمعنى ما، الأدب الذي ينطوي على تفاعل جدليِّ دائمٍ بين الموضوعية والذاتية، بين الحرية والضرورة، بين مظهر الحياة وحقيقة الفن، بين وجود المؤلف في كل جزء من عمله عنصرا مبدعا منعشا وبين ارتفاعه فوق عمله بوصفه المتقدِّم الموضوعيِّ"( ميويك. المفارقة. تر: عبد الواحد لؤلؤة. موسوعة المصطلح النقدي. ص:109.)، الرهانُ هنا هو كيف يكون العمل مؤسسا على ما تراه الذاتُ، ما تدركه من الحياة وتجلياتها وفي الآن نفسه متجردا عنها، وهنا مفارقة يجب أنْ تتصف بها الأعمال الأدبية؛ أنْ تكتب ما تراه الذات وتحقق متسعا في نصك تتشاركه الجماعة، أفقا يتصارع فيه المكتوب مع المتلقي وفي آن واحد ينسجمان.
ويرجع ما ذكرناهُ سابقا إلى كون الأدب فنّا تعبيريّا يبتعدُ عن العاديِّ والمألوف على جميع مستوياته الفنية والمضمونية جامعا في بوتقة واحدة كل المتعارضات المذكورة سابقا. وهو يُحاولُ أنْ يعبِّر عن الأفكار بطرق تمنحها إمكانية التعدد الدلاليِّ، واحتمالية التمظهر بلبوسات شكلية مختلفة على مستوى اللغة وإمكاناتٍ تأويلية على مستوى القراءة. ويتحقق هذا الطرح لأنَّ "النصّ الأدبيّ ليسَ بنية مغلقة وليس شكلا فنيا فحسب، بل هو شبكة من أشكال معرفية ولكنها ليستْ معطاة مباشرة، بل يجب أنْ تنتزع من النص، والنص بدوره ليس له وجود ثابت ونهائي" (ماشيري، بيار. بمَ يفكر الأدب؟ تطبيقات في الفلسفة الأدبية. تر:جوزيف شريم. المنظمة العربية للترجمة. بيروت-لبنان، الطبعة الأولى؛ 2009. ص:15.)، فهو يستمدُّ وجوده من تعدده ومن انفتاحه على التأويل المستمرّ محققا بذلك وحدته وديناميكيته الناتجة عن التفاعل بين عناصره في إطار مفهوم البناء (تودوروف وآخرون. نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس. تر: ابراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط-المغرب، الطبعة الأولى؛ 1982. ص:77.) كما أوضح الشكلاني يوري ثينيانوف أثناء دراسته لبنية الفن الأدبيِّ، وهو في العمق؛ القدرة على إحلال التصالح بين أكثر العناصر تناقضا أو اختلافا داخل بنية النص الأدبي.
إنَّ للمفارقة علاقة قوية بالفنون التعبيرية جميعا، بل هي من عمق الأدب ومن أساسات بنيته الدلالية والشكلية. وما دام"العمل الأدبيّ موضوعا جماليّا قادرا على إثارة تجربة جمالية"( ويليك، رينيه.وارين، أستن. نظرية الأدب. تر:محيي الدين صبحي. مراجعة:حسام الخطيب. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية؛ 1981. ص:254.) فإنَّ توظيف المفارقة في الأجناس الأدبية يجب أنْ يسير في المسار نفسه الذي يسير فيه الأدب، وأنْ يظهر وقد جعلَ المفارقة ملتحمة بالظواهر الأدبية من أجل تحقيق الغرض الفنيّ والجماليّ حتى لا تكون المفارقة مجرّد توابلَ على النّصّ لا تزيده شيئا، بل ربما، إذا لم يُحسن توظيفها، أنقصتْ من قيمته ومن جمالياته. وهذا ما تقع فيه كثير من النصوص التي تحاول توظيف المفارقة لكنها تركن إلى ظاهرها دون أنْ تحوّلها إلى نوع من الجدل الداخلي الذي يسير بالنص إلى آفاق أخرى.