يستهل عريف الاحتفال كلامه بتوجيه تحياته لمن يجلسون في الصف الأول، فيعددهم فردا فردا، مستبقا أسماءهم بالألقاب الجليلة: معالي وعطوفة وسعادة... وإذا حضر بعض رجال الدين، (أو العلماء كما يفضل الشيوخ)، فلهم ألقاب السماحة والفضيلة والغبطة والسيادة. وحتى لا يعتب أحد على عريف الحفل، يختتم صاحبنا فقرته الأولى بمخاطبة الجميع "كل باسمه ولقبه"، أو "الحضور مع حفظ الألقاب والمسميات".
والأنكى مما سبق، أن الخطباء والمتحدثين، يعيدون بدورهم تكرار هذه المعزوفة المُمِلّة، فيستنزفون آلاف الدقائق من وقت السامعين، ويستنزفون فوق ذلك أعصاب الجمهور وصبره، ويُكرّهون الناس في حضور مثل هذه المناسبات التي تطفح نفاقا. ولا فرق بين مناسبة حزينة كتأبين راحل، أو حماسية كانطلاقة فصيل، أو اجتماعية لتكريم العاملات أو طلبة التوجيهي.
لعل هذه الألقاب مستعارة من تجارب البيروقراطيات العربية، وهي على الأغلب موروثة عن عهود السلطنة العثمانية. وقلّما نجد لها مثيلا في الدول الصناعية الكبرى إلا باستخدام ألفاظ الاحترام في المناسبات الرسمية، ومخاطبة الملك أو الملكة كجزء من التقاليد التي تحترمها تلك الشعوب، مع أن الفرد هناك ليس مرغما على احترامها.
حلّت إذن ألقاب الرياء هذه محل أساليب المخاطبة التلقائية بيننا، وباتت كأنها نظام رسمي، يلتزم بها المتحدّثون، ويستمرِئُها المُخاطَبون. مع أن حارتنا صغيرة، وكلنا يعلم أن بعض أصحاب العطوفة هم مثال للقسوة والغلظة، وبعض من يوصفون بأصحاب المعالي لديهم ملفات في مكافحة الفساد، ويسري ذلك على بعض أصحاب السعادة والفضيلة والغبطة الذين تورطوا في الدم والتحريض على القتل، أو اعتدوا على المال العام، أو باعوا عقارات لجمعيات استيطانية، وكان الأصدق أن يخاطب هؤلاء بألقاب تدل على الدناءة والخِسّة والتعاسة.
في موروثنا الشعبي، كان آباؤنا وأجدادنا المغلوبون على أمرهم، يضطرون بشيء من المكر إلى مخاطبة العسكري أو المسؤول بألفاظ ظاهرها الاحترام، وباطنها التهكم، ربما اتقاء لشرّه، أو لتمرير طلب بسيط من طلباتهم. في مسرحية فيروز "يعيش يعيش" مثلا يخاطب الجمهور الشاويش، وهي رتبة عسكرية تعادل رتبة رقيب حاليا، بلقب "جناب الشاويش".
وتنتشر ظاهرة الألقاب هذه في الوزارات والدوائر، والمخاطبات الرسمية، وإعلانات التهنئة والعزاء، وهي لم تعد مجرد عادة اجتماعية عارضة، أو أسلوب دخيل في الكلام والمجاملات، لا سيما ونحن كلنا تحت الاحتلال، أرضا وشعبا وسلطة ووزراء ومسؤولين ومواطنين، فكيف ونحن نملك من تجارب النضال والوعي والثقافة ما يعفينا من كل هذا الهراء؟
في الأمر إذن ما يكشف اختلالا فادحا في أولوياتنا، من حيث تقديس المظاهر والشكليات على حساب الجوهر والمضمون، فنتكابر على بعضنا بعضا، ونطرب لألفاظ الفخامة والتبجيل، من دون أن يكون لها أية قيمة فعلية على أرض الواقع.
وللتذكير، لمجرد التذكير: قادة المشروع الصهيوني، وقبل أن أن يتمكنوا من إنشاء دولتهم على حساب شعبنا، مهدوا لها ببناء الجيش والهستدروت، والصناعات المتطورة وخاصة صناعة الماس، والجامعة العبرية ومعهد التخنيون ومعهد وايزمان للعلوم، والبنوك والمستشفيات، وبنوا نظاما سياسيا تعدديا، أي أنهم ارسوا الأسس المادية والقانونية للدولة قبل قيامها، وقبل أن يفكروا في منظومة الألقاب الشرفية التي ترافق الدولة ودرجات المسؤولية فيها، ويبدو أنهم حتى الآن لم يصلوا إلى مرحلة اعتماد هذه الألقاب!