من اللافت أن مواقف قادة أجهزة أمن وجيش الاحتلال تبدو أقل تطرفا من مواقف الساسة الإسرائيليين من الوزراء وقادة الأحزاب وأعضاء الكنيست. ظهر ذلك جليا في عديد محطات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كسلسلة الحروب العدوانية على قطاع غزة، وتفسير أسباب الانتفاضة الشبابية. حيث تميل مواقف السياسيين الإسرائيليين إلى الحلول الأمنية والعسكرية، واستخدام مزيد من القوة والبطش والعقوبات الجماعية، بينما تلحظ تقارير الأجهزة الأمنية والجيش الأسباب السياسية والاجتماعية، وانعدام الأمل لدى الفلسطينيين، وانسداد آفاق التسوية، وتَخلُص إلى استحالة حل الصراع بالوسائل العسكرية وحدها.
قد تبدو هذه المعادلة غريبة بالنظر إلى أن الأجهزة الأمنية تأسست وتربّت على عقيدة القتل، واستباحة حياة الأغيار، بينما يفترض بالسياسيين أن يُطَعمّوا كلامهم بعبارات عن الحرية وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، ولكن ذلك يصحّ في أي بلد إلا في إسرائيل التي تجنح يوما بعد يوم نحو مزيد من التطرف، وهي تستكمل الآن تحولها الواقعي والرسمي إلى دولة تمييز عنصري كما شخّص بحق تقرير (الاسكوا) والدكتورة ريما خلف، وكما نعرف نحن ونتلمسه يوميا على جلودنا وحياة أبنائنا.
قادة الأمن يعتمدون على تقارير وأبحاث ودراسات، وربما تُحَتّم عليهم وظيفتهم استقراء النتائج البعيدة المدى لما يجري حاليا، بينما السياسيون وقادة الأحزاب يراقبون استطلاعات الرأي، ويتركز اهتمامهم على اللحظة الراهنة، ولا يحفلون كثيرا بما ستؤول إليه الأحوال في المستقبل طالما أن جمهور الناخبين يصفّق للأكثر تطرفا.
على امتداد تاريخ إسرائيل، وجدت جماعات يمينية متطرفة تجاهر بمواقفها العنصرية، نجح بعضها في الوصول إلى الكنيست على غرار حزب "هتحيا" غيئولا كوهين، وحزب "موليدت" لداعية الترانسفير رحبعام زئيفي، حتى أن المتطرف مئير كهانا نجح ذات مرة في الوصول للكنيست. لكن هذه الأحزاب كانت تُصنّف خارج التيار المركزي للحركة الصهيونية، ويُنظر لها على أنها مجموعات من المهووسين الذين لا يمكن ائتمانهم على قيادة دولة تدعي أنها واحة الديمقراطية، وتنسب نفسها إلى ثقافة الغرب الأوروبي.
الآن بات تلاميذ هؤلاء في قلب الخارطة السياسية الإسرائيلية، وفي مراكز صنع القرار. فالمتطرفة أييلت شاكيد هي وزيرة العدل، وميري ريغف وزيرة ثقافة، ونفتالي بينيت وزير للتربية والتعليم، وإلى جانبهم يتولى متطرفون آخرون رئاسة لجان مهمة في الكنيست، ومناصب نائب وزير لحقائب مهمة كالدفاع والخارجية. ووسط هؤلاء يستطيع بنيامين نتنياهو التبجح بأنه سياسي معتدل، بل إن أفيغدور ليبرمان يقول من كل عقله أن لديه مبادرات لتحريك العملية السياسية!
لم تعد هذه الصورة تعبيرا عن حالة شاذة، بل هي من علامات استقرار الحياة السياسية في إسرائيل على وضع يكون فيه لليمين أغلبية حاسمة، في حين يتواصل تدهور حزب العمل ومعسكر "السلام" التقليدي، ولذلك أسباب عديدة من بينها ما رسخ في وعي الإسرائيليين عن الكلفة الزهيدة لاحتلال الأراضي الفلسطينية، وأن دولتهم هي دولة فوق القانون وبإمكانها أن تفعل ما تشاء دون أن يحاسبها أحد، وأن العرب يتهافتون سرّا وعلانية على خطب ودّها، وأن الفلسطينيين منقسمون على أنفسهم وأقصى ما يمكن أن يفعلوه مواصلة الشكوى ومناشدة مجلس الأمن التدخل لإنقاذ عملية السلام.
كل ما سبق يؤكد الحاجة إلى مقاربة فلسطينية مختلفة نوعيا عما ساد خلال ربع القرن المنصرم، ومراجعة شاملة لخطابنا وأدواتنا ورهاناتنا وأساليب عملنا، وتغييرا في طريقة إدارة شؤوننا الداخلية والشأن الوطني العام، وحبذا لو شمل التغيير قيادات استنفذت ما لديها وآن لها أن تسلم الراية للأجيال التالية.