الفرق بين السرد المغلق على مشاعر الكاتب، والسرد المخاطب لحواس القارئ، هو ذاته الفرق بين النهر والبحر، فالأول محدود المساحة، مغلق وإن طال مسطحه، والثاني واسع الأفق، متدفق يأخذك من عالم إلى آخر.
نعم، صحيح أن في الأدب العالمي من السحر الكثير، سواء على صعيد جماليات السرد، أو على صعد المواضيع، واللغة، والنسج، ناهيك عن الاطلاع المعرفي على ثقافات الشعوب الأخرى، إلا أن الأدباء العرب، يملكون لغتهم الساحرة أيضاً، لا سيما وإن خلت من شوائب التكلف لصالح كفاية الشرح.
قبل أيام قليلة، انتهيت من قراءة عدة روايات من الأدب العالمي، كان أبرزها رواية "العمى" للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو، ورواية "العطر" للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، وهما روايتان لا يمكن للقارئ إلا أن يتعايش معهما بكل حواسه، إلا أني لم أستمتع كما كانت حالة الاستمتاع وأنا أغوص سابحاً في تاريخٍ مضى، دوّنه الكاتب والشاعر أمجد ناصر عن يوميات الحصار في بيروت عام 1982 تحت عنوان "بيروت صغيرة بحجم راحة اليد".
أمجد ومنذ بدء اليوميات التي أسماها "تدوينات شخصية"، راح يؤكد في تمهيده المعنون بـ"رقصة الدم والنار" أنه وبعد قرابة الثلاثين عاماً على هذه اليوميات، لم يتدخل في النص لجهة تهذيبه أدبياً أو بلاغياً، والحق أقول: إنه خيراً فعل، لأن النص بشكله المنشور، جاء نصاً حياً فيه من عذوبة القول، ما يفوق مرارة الحدث.
الشاعر غسان زقطان أحد أبطال هذا السرد، نوّه في مقدمته المعنونه بـ"أبسط من البطولة" إلى فكرة اليوميات بوصفها حكاية أبسط بكثير من حيلة البطولة وبلاغتها على حد قوله، إلا أن ما تكشفه اليوميات من تفاصيل لم تنأَ عن واقع البطولة ببعديها الفردي والجماعي.
نعم هي بطولة لم تزل بحاجة إلى المزيد من المحاكاة، لتكتمل الدائرة، دائرة الموت المشتهى، في مجابهة مجاز الحياة بكل كذبها وزيفها... هي بطولة الإنسان العبثي، الخائف، القلق، المتردد إلا من إيمانه بالانتصار.
هنا في يوميات أمجد، يعيش القارئ بيروت وإن لم تطأها قدماه، وكأنه جزء لا يتجزأ من عالم حاك، وحيكت له تفاصيل أيامه أنذاك، ربما يشعر القارئ الفلسطيني بذلك كون هذه اليوميات تحاكي همه اليومي الذي لم يزل يبحث عن مخارج له، وربما رأيتها كذلك لأن جزءاً كبيراً منها دار في بيتٍ، بت بعد سنوات أنتمى إليه، ألا وهو بيت "الإذاعة الفلسطينية"، التي كانت حينذاك تبث باسم "إذاعة الثورة"، وربما ثالثة لكوني عاصرت وما زلت، عدداً لا بأس به من أبطال هذه اليوميات، ومنهم الراحل يوسف القزاز، والإعلامي الأستاذ خالد مسمار، والسياسي نبيل عمرو، والشاعر غسان زقطان، وفيصل حوراني، وغيرهم.
إلا أن المتفق عليه بين كل هذه الاحتمالات، أن أمجد الكاتب والشاعر والإنسان، استطاع أن يحيك ثوب يومياته، وكأنه يعزف مقطعة موسيقية يدرك السامع أين مطلعها، ولكنه لا يدري متى يقف على خاتمتها. فلقد تمكن ناصر من إزاحة التفاصيل إلى مشاهد حية بلغة رشيقة، سلسة، بسيطة في عمقها الأعلى، لتحل محل الواقع بكل تجلياته التي جعلت منها يوميات حية من لحم ودم.