منذ بدء الصراع العربي الصهيوني على أرض فلسطين ، أخذ هذا الصراع مكانه في العديد من ساحات ـ أو فلنقل جبهات ـ المواجهة ، ومن بين هذه الساحات : التاريخ ، التراث ، الثقافة والأدب ، وحتى اللغة إلى حدّ معين ، ولا أستطيع أن أقول إن الدين كان عن ساحة الصراع ببعيد ، وليس ما هو أدل على ذلك من قانون منع الأذان ( أو قانون المؤذن ) الذي فصّل ليستثني صفارة يوم السبت ، وهذا كله ما يمكن لنا أن نصنفه تحت عنوان أعم ، وهو الصراع على الهوية ، أي هوية هذه الأرض ، والتي هي المحور الأساس في هذا الصراعالأشمل الذي يفضل السياسيون أن يطلقوا عليه ( الصراع العربي الإسرائيلي ) .
وما دامت الأرض هي المستهدفة ،فقد كان من الطبيعي أن تتعرض أرض فلسطين لهذه الهجمات المتتالية التي استهدفت هذه الأرض منذ أواخر القرن التاسع عشر مروراً بحرب النكبة وما تلاها وحتى وقتنا الحاضر .
وفي لحظة من لحظات هذا الصراع الطويل ، والمرير ، كان لا بُدّ وأن تأتي اللحظة التي تُجسّد بصورة رمزية التصاق الإنسان العربي الفلسطيني بأرضه وتشبثه بها ، كتشبث أشجار الزيتون بهذه الأرض التي غدت فيها رمزاً للسلام المفقود على أرضها ، منذ فجر التاريخ ، فجاءت تلك اللحظة مترافقة مع الهبة الجماهيرية التي وقعت في الثلاثين من آذار عام 1976 في القرى والتجمعات العربية الفلسطينية داخل ما يعرف بالخط الأخضر ، والتي استشهد فيها ستة مواطنين وأصيب غيرهم الكثير.
وفي خضم الأحداث المرافقة لموجات استهداف الأرض المتتابعة ، لم يقف المثقف الفلسطيني ، والعربي ، بعيداً عن مشهد الصراع مع الحركة الصهيونية ، بل كان على الدوام جزءاً منه ، وفعّالاً فيه ، فإذا كانت الهوية محوراً أساسياً في هذا الصراع ، فمن الطبيعي ، بل من الضرورة أن يكون الأدب ، وغيره من صنوف الثقافة والفكر حاضراً في مشهده ، لأن قلم الكاتب ، وريشة الرسام ، وحنجرة المغني ، وآلة العازف هي الأدوات التي يتبارز بها الجمعان في معركة الصراع على الهوية ، ولهذا نظم الشعراء في حب الأرض أبدع القصائد ، وسطر الكتاب أجمل المؤلفات ، وردد المغنون أروع الأغنيات ، وعزف الموسيقيون أعذب الألحان ، وأبدع الرسامون بالألوان أجمل اللوحات !
والمتابع للحركة الثقافية الفلسطينية ـ والعربية المنخرطة في الحالة الفلسطينية ـ يجد أن الإبداعات الثقافية التي تتعلق بالأرض الفلسطينية والصراع الذي يدور عليها ، ولأجلها ، لا تتناول واقع الصراع بجانبه المباشر فقط ، وهو الصدام العسكري أو الثوري ، كوصف المعارك التي يخوضها طرفا الصراع ـ المحتل والمقاوم للاحتلال ـ للسيطرة على هذه الأرض وما ينبثق عن هذا الوصف من المثل السامية والأفكار النبيلة كتمجيد الشهادة ، وتخليد الشهيد ، وتثمين التضحية ، بل إن هذه الإبداعات تتناول واقع الصراع على الأرض بجوانبه غير المباشرة أيضاً ، كتأكيد ارتباط الإنسان بأرضه ، وحرصه على التمسك بها ، وإعلاء قيمة العمل فيها ، وإبراز مواصفاتها الجمالية بشجرها النضير ، ونباتها الكثير ، وأزهارها الجميلة ، وصخورها الظليلة ، وثراها العطِر ، وطيورها الغرّيدة وحيواناتها العديدة.
ومن هنا ، فإن وجود الأرض ، كلفظة وفكرة ، سيبقى حاضراً بقوة في مكونات الثقافة الفلسطينية ما بقي الصراع على هذه الأرض قائماً ، وحتى عندما يُحلُّ هذا الصراع وينتهي ، بإحدى الطرق التي ترويها كتب التاريخ عن إنهاء الصراعات ، فإنني أعتقد أن الأرض ستبقى أيضاً عنصراً حاضراً في ثقافتنا وأدبنا ، ليس من أجل إحياء الأرض وإحسان استغلالها فقط ، بل لأن كيان الإنسان ، أي إنسان ، لا يمكن له أن يخرج من حيز الزمان والمكان ، وأعني الزمان الذي يحيا فيه ، والمكان الذي ينتمي إليه وهو الأرض التي يعيش عليها !