رحم الله العقيد معمر القذافي، الذي افتقدناه في القمة العربية الأخيرة، ولولا أن الله شاء وقدّر، لكان بوسع الراحل أن يكسر الرتابة التي شابت أعمال القمة، وأن يبدد النعاس الذي غالب بعض القادة. بعد الخراب الذي ألحقه الراحل ببلده، والأذى الذي تسبب به لقضايا العرب والمسلمين وفي مقدمتها قضيتنا الفلسطينية، وتصريحاته الغريبة وأعماله الأغرب، لم يترك الرجل محاسن تستحق الذكر بعد موته، إلا بعض الطرائف والنوادر التي رافقت حكمه، وعلى قاعدة "خذوا الحكمة من أفواه المجانين" يبدو أن صرخته الخالدة "من أنتم" التي أطلقها ذات خطاب يائس تستحق منا التوقف والتحليل، أكثر بكثير مما حظي به كتابه الأخضر من مؤتمرات وندوات وحلقات دراسية.
صرخة ما زال صداها يتردد في بلاد العرب وقفارهم وفيافيهم، في مضاربهم وقراهم ومدنهم المُتعَبة ونواديهم ومجالسهم، كما في قصورهم وزنازينهم. إنها سؤال الرؤساء للمرؤوسين والجماهير للقيادة، والمظلوم للظالم. سؤال القتلى وهم في النزع الأخير يلفظون أنفاسهم نتيجة تفجير باغتهم في مسجد او شارع، ولعله يحيّر الآن عشرات آلاف الموظفين في قطاع غزة ممن قُلّصت رواتبهم أو قطعت، كما يطرحه مسؤول معتَدّ بنفسه وحكمته وهو يضيق ذرعا بملاحظات العوامّ والجاحدين على قراراته ومواقفه الفذّة، وهو السؤال عينه الذي دار في خلد الشباب والصبايا الذين شاهدوا هراوات الشرطة تنهال على أجسادهم في مظاهرة ما، وربما جال في خاطر "حُماة الديار" وهم يتلقون الأوامر بإيقاف المدسوسين، وأصحاب الأجندات، عند حدهم.
ولا شك أن السؤال يدور في ذهنك كما دار في ذهني حين نتلقى القرارات المهمة التي تدهمنا دون سابق إنذار، أو حين يجري التراجع عن هذه القرارات، وهو يرافقنا أيضا حين نتأمل مختلف جوانب حياتنا الاجتماعية، كأن نلحظ مشاهد الفوضى العارمة في كل شيء، وأن نرى المواكب التي ترافق المسؤولين، ومظاهر الأُبّهة التي تحيط بهم دون أن نجد سببا مقنعا لذلك. وينتقل السؤال من مستوى رد الفعل الغريزي لضحية تسأل جلادها عن سبب الجريمة ومبرراتها، فيتفرع لأسئلة أخرى يعرفها الصحفيون وطلاب الصحافة: ماذا وكيف ولماذا ومتى وأين، وينتشر ليطال التباسات الوجود والهوية، وصلاحيات الأفراد والهيئات، وسلوك الجماعات الذي يصعب تفسيره، ويمكن تلخيص هذه الحال على صيغة: يا أنت، يا هذا، أيها المجهول، من الذي فوّضك أن تتحكم بمصيري وأن تحدد مسار حياتي؟؟
إنها الصدفة أيها السائلين، أو هي القضاء والقدر بلغة المؤمنين، وستظل الإجابات عصية على المنال في غياب منظومة منطقية ورضائية تحكم حياتنا وتنظم شؤوننا وعلاقاتنا، وستبقى حياتنا رهنا للارتجال والعشوائية والتخبط وتقلّب الأمزجة، وسوف يستمر بقاؤنا طويلا في موقع نصب مفعول به لفاعل يتعذر تقديره أو تقدير أسباب فعله.