بقلم - أحمد بعلوشة
غزة، بلد المليوني سجين، ستدخل يوماً موسوعة غينس للأرقام القياسية، كأكثر مدينة دُسَّ السُّم في فمها، ومع ذلك "مش راضية تموت".
نعم جميعنا يعلم أنَّ هذه المدينة منكوبة، ولا أحد يعلم كيف يستمر الناس فيها بالعيش رغم فقدانهم معظم مقومات الحياة الآدمية التي كفلتها كافة الشرائع والمواثيق، ولكن لم يكفلها الحصار ولا البطالة ولا الحروب ولا مشاكل البنية التحتية التي تبدأ بتلوث المياه التي لا يصلح 96% منها للشرب، ولا تنتهي بأزمة الكهرباء التي بدأت في حزيران 2006، ومازالت مستمرة إلى يومنا هذا، بل وتتعاظم دون أي بوادر لإيجاد حلول في الأفق القريب.
الحدث الأخير كان قرار خصم 30% من رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، والذي أثار حفيظة المواطنين في غزة والضفة الغربية، وأطلق مجموعة من التساؤلات المتعلقة بما ينطلي تحته هذا القرار الذي جاء بعد عشر سنوات من أحداث الانقسام الجاثم على صدورنا إلى اليوم، والذي تسبب بدوره بسلسلة مشاكل أخرى لن نستطيع مواجهتها إذا ما استمر طرفا الانقسام بتفتيت كافة المبادرات التي يعتبرها كل طرف غير منصفة بالنسبة له.
إنَّ ما يحدث هو بالتأكيد وسيلة جديدة من الوسائل التي يتم استخدامها منذ عقد من الزمان للضغط على حركة حماس بعد تجربة وسائل باءت جميعها بالفشل، ولكن.. هل يتم استخدام المواطن الفلسطيني –وأعني هنا موظفي السلطة الفلسطينية في غزة- كوسيلة ضغط جديدة؟ وتجاهل آلاف العائلات التي تعيش بما يتبقى من رواتب موظفي غزة والذين توقفت علاواتهم وترقياتهم وكافة امتيازاتهم عقب الانقسام الفسلطيني عام 2007 وسيطرة حماس على القطاع.
خلال هذه السنوات العشرة، تغيرت الحياة وازدادت الأسعار وأجرة البيوت والتزامات موظفي السلطة الذين يعيل جزء كبير منهم إخوانهم وأقاربهم الذين لا يجدون فرصاً للعمل في غزة. عشر سنوات مرت عليهم وهم في مكانهم دون أي تقدير أو حقوق أو امتيازات ومع ذلك لم نسمع صوتهم، فكوفئوا بخصم رواتبهم.
وفي الحديث عن الخصم.. تلقيت مكالمة من أحد أصدقائي الذين يعملون في السلطة الفلسطينية. قال لي وهو يضحك: "ما تبقى لكم.. 600 شيقل"، وهنا يقول البعض أنَّ المبالغ التي تحدث عنها الناس غير منطقية، فكيف يتبقى 600 شيقل في حساب موظف راتبه الأساسي 3000 شيقل؟، والإجابة سهلة: وهي أن الـ 30% من الراتب تساوي 900 شيقل، ما يعني أن ما يفترض أن يتبقى هو 2100، ولكن الحقيقة أنَّ معظم موظفي السلطة ملاحقون بالديون والقروض التي يتم خصمها تلقائياً، والتي لم تكن مبنية على أنه سيأتي يوم يتم فيه إقرار الخصم، وهذا يعني أنه كان يتبقى له من الراتب الأساسي 1500، وتذهب 1500 أخرى للقروض، ومع خصم 900 (الـ30%)، يتبقى في رصيده 600 شيقل ليعيش هو وأسرته بما يعادل 20 شيقل يومياً، وليتمتع بالمزيد من "رغد الحياة".
يعني من كان راتبه 3000 شيقل قبل عشر سنوات، حين كان كيلو الدجاج بـ 9 شواقل، أصبح راتبه 600 شيقل، في الوقت الذي يصل فيه كيلو الدجاج لـ 18 شيقل، وهنا نريد استشارة المنطق فيما إذا كان من المنطق أن تجري الحياة بهذه الطريقة، أم أننا نحن استثنائيون بشكل استثنائي غير مفهوم؟.
حركتا حماس وفتح تقومان بعراك أمام ساحة البيت الفلسطيني، غير آبهتان بسكان هذا البيت، بل وتتعاملان مع المواطنين على أنهم متلقِّين للحدث وغير مشاركين فيه، سيما وأنَّ المواطن الفلسطيني الذي بلغ الثلاثين ولم يقم بانتخاب أي طرف من الأطراف الموجودة الآن، هو بالضرورة ضحية للتجاذبات التي لا تنتهي، والتي لن تنتهي إلا بتنازلات من كلا الطرفين يتم من خلالها تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والفئوية التي لا تخدم المواطن الفلسطيني الذي لا يجوز مكافأته على صبره وصموده بالمزيد من العقوبات.
ما هو الحدث الأكبر الذي قد يحدث لهذه المدينة كي نقول بأنها تحتاج إلى المساعدة، وبأنه يتعين على الجميع أن يقف عند مسؤولياته لوقف كارثة إنسانية محققة ولا تحتاج إلى الكثير من التقارير والبيانات لاكتشافها؟