الحدث العربي والدولي
كان الهجوم الكيماوي الذي وقع الأسبوع الماضي على مدينة خان شيخون السورية التي يسيطر عليها متمردون سببا في إرغام الرئيس الأميركي دونالد ترمب على ضرب قوات الرئيس السوري بشار الأسد لأول مرة. وبقصف قاعدة جوية في غرب سوريا، تورطت إدارة ترمب في فراغ السلطة المتنامي في الشرق الأوسط. ولكن ماذا قد يكون تحرك ترمب التالي، إن كان هناك أي تحرك تال؟
الواقع أن تدخل ترمب غير المتوقع، الذي يأتي بعد ست سنوات من الحرب الأهلية التي بلغ عدد ضحاياها 400 ألف قتيل بين المدنيين فضلا عن نزوح الملايين، كان موضع إشادة من قِبَل أغلب الساسة في الولايات المتحدة، على الرغم من تنفيذه دون الحصول على موافقة الكونجرس الضرورية. كما رحبت جماعات المتمردين السوريين وحلفاء أميركا الدوليون (بما في ذلك أولئك الذين شاركوا في اجتماع وزراء خارجية مجموعة الدول السبع الذي اختتم أعماله للتو في إيطاليا) بهجوم الولايات المتحدة على القوات الحكومية السورية.
باستخدام 59 صاروخا من طراز توماهوك، بعث ترمب برسالة إلى نظام الأسد ورعاته، وخاصة روسيا وإيران، مفادها أنه على النقيض من سلفه باراك أوباما عازم على فرض "الخطوط الحمراء". ومن غير المستغرب أن يدين كرملين فلاديمير بوتن الهجوم الأميركي، مدعيا أنه انتهك القانون الدولي ــ وهو اقتراح مريب، خاصة وأن سوريا من الدول الموقعة على المعاهدة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية.
ولكن أيا كانت الرسالة المقصودة من قرار ترمب، فيبدو أن مصيرها كان الغرق تحت ثرثرة وهذيان إدارته لاحقا عل نحو يدل على عدم الاتساق الاستراتيجي. ففي حين اقترح نيكي هالي، سفير الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة، أن خلع الأسد أصبح الآن من الأولويات، يُصِر وزير الخارجية ريكس تيلرسون على أن إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يظل يتصدر الأجندة الأميركية. والأمر الأسوأ أن القرار الذي اتخذه ترمب بالتحرك عسكريا جاء كما أفادت التقارير متأثرا بابنته إيفانكا التي زعمت أن صور ضحايا الهجمات الكيميائية "سحقت فؤادها وصدمتها".
إن التصرفات الانفعالية المتهورة التي تحركها مشاعر شخصية ليست بديلا للسياسة الخارجية المراعية للأمد البعيد. الواقع أن الافتقار إلى نهج واضح وشامل هو الذي سمح لروسيا بغرس نفسها في قلب الصراع السوري في المقام الأول. فمن منظور بوتن، خلق عزوف أوباما عن التدخل فرصة ذهبية لفتح بوابة الدخول إلى الشرق الأوسط.
الواقع أن هدف بوتن في المنطقة ليس إحداث تأثير إيجابي بعيد الأمد. بل إنه يريد إقحام روسيا بين قوى فاعلة مختلفة تفتقر إلى السياسات المتماسكة في التعامل مع بعضها بعضا، وبالتالي تعزيز قوة روسيا وهيبتها. ومثله كمثل أي عميل جيد للاستخبارات السوفييتية، يلغب بوتن على كل الأطراف، سعيا إلى تعزيز أجندته الخاصة. وبالفعل، بدأ نوع جديد من حلف وارسو يتشكل.
وكجزء من هذه اللعبة الاستراتيجية، عملت روسيا على زيادة النفوذ الذي تمارسه على أقرب حلفاء أميركا، إسرائيل. ففي العام الفائت وحده، عقد بوتن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خمسة اجتماعات وكانا حريصين على تعميق العلاقات الثنائية. وتحت وطأة العقوبات المفروضة على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، يتطلع بوتن إلى قطاع التكنولوجيا في إسرائيل لتوفير ما لم يعد الغرب يوفره. ومن جانبها، تأمل إسرائيل أن تساعد روسيا في كبح جماح إيران. وخلافا لبعض تصريحات نتنياهو العامة، لا تعارض إسرائيل تدخل روسيا في سوريا؛ فهي ترى أن الأسد أقل شرا من دولة فاشلة تحكمها الفوضى، كحال ليبيا بعد الإطاحة بالعقيد القذافي في عام 2011.
كما يُحرِز بوتن تقدما في العراق. ففي العام الماضي، أرسل الكرملين أكبر وفد منذ سنوات عديدة ــ أكثر من مائة مسؤول ــ إلى بغداد لتعزيز العلاقات التجارية والأمنية. وقد ركزت التبادلات التي نشأت عن ذلك على المساعدات العسكرية إلى حد كبير، وإن كان بوتن خطب أيضا ود سفير العراق الجديد إلى روسيا، حيدر منصور هادي، بحديثه عن إمكانية التعاون في قطاع الطاقة.
ثم هناك أفغانستان، حيث سعت روسيا إلى إقامة علاقة قابلة للاستمرار مع طالبان، في تكرار لسلوك الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن العشرين. فمن خلال التودد إلى طالبان، يساعد بوتن في زعزعة استقرار الحكومة الضعيفة بالفعل في كابول ــ ويجعل نفسه طرفا لا غنى عنه في أي استراتيجية تسعى بها الولايات المتحدة إلى الهروب من أطول حرب في تاريخها.
في مصر أيضا، تحاول روسيا استعادة نفوذها في الحقبة السوفييتية. وقد صادفت بعض النجاح مع الرئيسي المصري عبد الفتاح السيسي الذي يحترم نموذج حكم الرجل القوي الذي يمثله بوتن والذي يضع أيضا نصب عينيه المصلحة القوية المتمثلة في إعادة بناء صناعة السياحة في مِصر ــ وهو جهد تستطيع روسيا أن تساهم فيه.
فقبل أن يفجر الإرهابيون طائرة تحمل سياحا روس فوق سيناء في عام 2015، كان الروس يشكلون نحو 30% من زوار مِصر. وفي حين أعادت روسيا مؤخرا خدمة الرحلات الجوية التجارية إلى البلاد، فقد أثار التفجيران الانتحاريان اللذان استهدفا كنيستين قبطيتين في أحد الشعانين (أحد السعف) الشكوك في مصداقية وعد السيسي بتوفير الأمن.
الواقع أن المشاق التي تكابدها مِصر تتيح لبوتن المزيد من الفرص لتقديم يد المساعدة. وبالفعل حصلت روسيا على الإذن بتوسيع منطقتها الصناعية الخاصة في بورسعيد، كما وقعت الحكومة المصرية على عقود بقيمة مليار دولار لشراء معدات عسكرية روسية، بما في ذلك أنظمة صاروخية. وعلاوة على ذلك، أعطت مِصر روسيا إمكانية الوصول إلى قواعد جوية لنشر قوات خاصة في ليبيا دعما لخليفة حفتر، أمير الحرب الذي يدعمه بوتن.
لا تقوم سياسة بوتن الخارجية على استخدام القوة الروسية، بل على الاستفادة من نقاط ضعف الآخرين. وربما يبدو كسب ولاء أنظمة فاشلة من خلال التعهد بدعمها استراتيجية ناجحة، ولكن البيت الذي يبنيه بوتن مصنوع من ورق. ولا تمتلك روسيا الثروة أو القوة العسكرية اللازمة لدعم الأنظمة الفاشلة إلى ما لا نهاية. ولابد أن يدرك بوتن هذه الحقيقة. ومن المؤكد أن تيلرسون يدركها.
خلال زيارته إلى موسكو هذا الأسبوع، يبدو أن تيلرسون أوضح أن علاقات روسيا مع الولايات المتحدة سوف تزداد تدهورا إذا استمر بوتن في جعل نفسه جزءا من المشكلة في الشرق الأوسط. ولأن بوتن يحترم القوة، ويريد أن تتعامل معه الولايات المتحدة نِدا لند، فربما يقتنع بأن يصبح جزءا من الحل.
مع انحدار العلاقات الثنائية إلى مثل هذا المستوى المتدني، يدعو اتفاق الجانبين خلال زيارة تيلرسون على إنشاء مجموعات عمل لتحسين العلاقات بين البلدين إلى بعض التفاؤل. بيد أن إقناع بوتن بالانتقال إلى الجانب "الصحيح" في سوريا في الأمد البعيد يستلزم أن تقدم إدارة ترمب حلا حقيقيا ــ وهو ما لم تُثبِت امتلاكها له حتى الآن.
*كاتبة سياسية، أستاذ الشؤون الدولية، حفيدة رئيس الاتحاد السوفيتي خروتشوف
المصدر/ بروجيكت سنديكيت