يخوض مئات الأسرى إضراباً عن الطعام انتصاراً لكرامتهم وكرامتنا ومطالبة بأبسط حقوقهم داخل الأسر. إضراب الكرامة خلق حالة من التفاعل الافتراضي المكثف، تكشف تعطش الشارع الفلسطيني لحدث يوحده وقضية يلتف حولها نصرة لذاته وكرامته الممتهنة من قبل الاحتلال والانقسام كل يوم.
وللأسير الفلسطيني مكانة مقدسة في الوعي الجمعي ربما تكون الوحيدة التي لم تتأثر بآفة الانقسام ولهو "الجكر" السياسي الذي استحوذ على حياتنا منذ عشر سنوات. وفي هذا السياق، لا يمكن إلا أن ننحني إجلالاً لمن هم أكرم منا جمعياً ومن قدموا حريتهم قرباناً لحريتنا الجمعية.
ولا يمكننا أيضاً إلا أن ندعم أسرانا في مطالبهم وإضرابهم لأنهم، وفي ظل حالة الانكشاف التي نعيشها، ما زال عندهم ما يقدمونه من التضحية والمبادرة منارات علها تضيء دربنا.
لكننا، ونحن نحاول دون جدوى أن نتفق على وسم (هاش تاغ) موحد نأمل أن نخبر العالم من خلاله عن إضراب الأسرى وقضيتهم العادلة، علينا أن نعترف بحقائق مرة من الأسهل أن نتجاهلها.
الحقيقة أن الإضراب ليس عاماً ولا يمثل حتى الأغلبية من الأسرى وهذا يدحض ما نقوله عن وحدة الأسرى. والحقيقة أيضاً أن مطالب الأسرى، على أهميتها، كان من الممكن أن تكون أقوى وأكثر فعالية لو أن الجبهة الداخلية موحدة ومتينة بحيث لا يُسمح للسجان الإسرائيلي أن يستفرد بأسرانا وأن يعيدهم إلى مربع المطالبة بحقوق حصلوا عليها في السابق بنضالهم وإضراباتهم وسلبت منهم بكل سهولة. وحقيقة الأمر أن هناك مخاطر كبيرة تحدق بأسرانا وقضيتنا على المستوى الدولي عنوانها تجريم الحركة الأسيرة والنضال الفلسطيني بشكل عام عن طريق سن تشريعات وقوانين في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول، وهذا الإضراب وكل ما نقوم به من تفاعل افتراضي وفعلي لا يعالجها بل لا يلامسها البتة.
واجبنا أن نساند الأسرى في مطالبهم، وهذا أضعف الإيمان، لكننا في مساندتنا هذه لا يجب أن نغفل أن حالتنا الوطنية المهترئة قد خذلتهم ألف مرة قبل هذه المرة بانقسام حالنا وعدم قدرتنا على خوض معارك كبيرة موحدين، فنكتفي بأنصاف المعارك لنرفع معنوياتنا نحن ونزيل شعورنا بالذنب؛ كأن نتضامن افتراضياً مع أسرى خاضوا معاركهم الشخصية فرادى ضد الاعتقال الإداري، وأضربوا عن الطعام حتى واجهوا شبح الموت وحدهم وانتصروا وحدهم، وكنا نحن من المتفرجين.
لو كنا موحدين، لكانت المعركة شاملة بالمعنى الحقيقي وعنوانها إسقاط ورقة التوت عن منظومة المحاكم العسكرية التي أسرت وعذبت قرابة مليون فلسطيني على مر الخمسين سنة الماضية.
منظومة الاحتلال والمحاكم العسكرية كلها باطلة ولا ترتقي لأبسط وأدنى تعريفات العدالة، وهذا التوصيف يحظى بإجماع دولي غير مسبوق وتوثيق حثيث من عشرات المنظمات الحقوقية الفلسطينية والإسرائيلية والدولية ولكن المنظومة هذه ليست عنوان الإضراب أو حملة التضامن للأسف.
الوحدة ليست شعاراً نرفعه حتى نرفع العزائم. الوحدة في هذا السياق هي الفرق بين الانتصار ونصفه وبين الحياة وشبيهتها والحرية وأشباهها.
بينما يخوض بعض أسرانا إضرابهم ونتضامن معهم بانفعال ودونما اتفاق حتى على وسم (هاش تاغ) يوحد جهدنا الافتراضي، تعمل إسرائيل بشكل منهجي ومدروس على شيطنة الأسير في نظر العالم وعلى تجريم النضال الفلسطيني بكل أشكاله، تساندها في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي يدرس برلمانها في هذه الأثناء سلسلة من القوانين المقترحة التي تستهدف الأسرى والشهداء والجرحى ومن يناصرهم ومن يعترف بحقوقهم ومن يؤمن بأن هؤلاء هم منارات الحرية لشعب يرزح تحت الاحتلال. بينما نقنع أنفسنا أن الأسرى موحدين وأننا فعلاً خلفهم، رغم ما يعتري هذا الوصف من تجنب للحقيقة، نحن في الواقع نرضخ لواقع منقسم لا يمكن فيه إلا خوض أنصاف المعارك وحصد أنصاف الانتصارات.
الحال هذا لا يتوقف عند قضية الأسرى ونضالهم الباسل بل ينسحب على كل همومنا وقضيتنا الوطنية. نحن منهمكون في شؤوننا الصغيرة التي خلقها الانقسام وهدر دم الأخ لأخيه ونسخر استقواء الاحتلال علينا لتسديد ضربة في ملعب الخصم الداخلي بدل أن تشكل سياسات الاحتلال والتحركات الدولية الخطيرة التي تهدف إلى وأد قضيتنا القضاء على إمكانية استقلالنا صفعة توقظنا من سكرة التيه التي اعتدنا عليها.
منذ عشر سنوات ونحن أسرى لفلك الانقسام والجكر السياسي الذي أثبت قدرته على تحوير أجمل ما فينا من قيم ووعي جمعي إلى أشباه مواقف وأشباحٍ للوعي.
عشر سنواتٍ اكتشفنا خلالها أننا قرابينٌ لآلهة الفصائل التائهة عن بوصلة الوطن والباحثة عن مجدٍ تسترقه من أمجاد الآخرين.
ثلاث حروبٍ وآلاف المآسي ونحن ما زلنا رهائن لمعركةٍ، الأصل فيها هزيمة الكل الوطني لنصرة الأنا الحزبي. عشر سنوات عجافٍ هشمت كل ما كنا نعتقد عن أنفسنا وندعيه من وحدة وتميّز ووعي تحطمت على صخرته كل المآرب والمؤامرات لوأد حلمنا بالحرية والخلاص الوطني.
عشر سنوات والاحتلال مستفرد بنا وبأبنائنا وبأرضنا، ينهش أحلامنا ويهزأ بإنجازاتنا لأنه قادر على التقليل منها تحت عنوان الانقسام.
عشر سنوات من التضحيات كان من الممكن أن تزهر حرية لولا هذه الآفة التي يدعمها الكثيرون بينما يمنع الآخرون دواءها عنا طمعاً في الاستحواذ على الورقة الذهبية التي تمثلها فلسطين في بازار السياسة الإقليمية. عشر سنوات أوصلتنا إلى حافة الهاوية، فإما أن ننتشل أنفسنا من سحيق نهاية جمعية تُحضر لنا في ليل أو أن نستمر في السير هائمين نحو النسيان.
بينما يخوض أسرانا إضرابهم داخل سجون الاحتلال، يتوجب على من يتمتع بالحرية منا أن يقف وقفة عزّ وحقيقة إكراماً لهم وهم الذين ينسجون من خيوط الشمس حريتنا ويسطرون بتضحياتهم مكانة مرموقة لنا بين الأمم علينا أن نكون أهلاً لها.
في هذه الأثناء، هناك الكثير مما يتوجب علينا فعله حتى نرتقي من مربع الذنب إلى ساحة الكرامة وأول هذه الأفعال هي اعترافنا بعار انقسامنا الذي تسرب حتى إلى أسرانا، فلم يتمكنوا من خوض معركتهم موحدين.
نحن الذين أضعفنا صوتهم وقوتهم، رغم أنهم سبقونا وأهدونا وثيقة الوفاق الوطني التي داسها من استسهل الدم واستمرأ الانفراد على حساب لحمنا ودمنا وأحلامنا.
يقول جبران خليل جبران: "لا تعش نصف حياة ولا تمت نصف موت. لا تختر نصف حلٍّ ولا تقف في نصف الحقيقة. لا تحلم نصف حلمٍ ولا تتعلق بنصف أمل".
واجبنا أن ننظر في المرآة ملياً وأن نفتك من أنصاف الحلول والقضايا، لننتصر لأمل كان يجمعنا بالحرية.