هل كُتب على هذا القطاع أن يظل تحت تقاطع نيران صديقة وعدوة؟ وهل كتب عليه وعلى أهله أن يظلوا مكسر عصاً للمتصارعين أصحاب الأجندات الخاصة ذات العناويين الكفاحية المجيدة؟
ما تعيشه غزة منذ سنوات ليس أزمة كما يحب مختزلوا المآسي وصفها، ولا مأساة عارضة تعد بالأيام والشهور وحتى السنوات، فكل هذه الأوصاف تبدو مخففة حين نضطلع على غزة وما تكابده، وينوء أهلها تحت أثقاله.
إنها استثناء عن كل مناطق العالم التي تواجه كوارث، حتى الذين يقتلون بالجملة في زمن الربيع العربي، يجدون أبواباً يهربون منها الى أماكن ربما تبدو أكثر أمناً.
وغزة بالقياس مع بلدان الكوارث، لا أبواب لها وليس بوسعنا اعتبار البحر باباً يصلح للهروب، فإلى متى سيستمر هذا الوضع الذي يبدو الخلاص منه كالسراب كلما اقتربنا منه تلاشى الماء؟
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة، وما يجري في غزة هو أفدح أنواع ظلم ذوي القربى، ليس منطقياً ولا معقولاً توجيه اللوم لإسرائيل، التي تفتح باباً موارباً مدفوع الكلفة والأجر، فالمحتل لا يلام، فهذه وظيفته ومن أجلها دام احتلاله، أما ذوو القربى الذين ابتدعوا معادلة بناء دولة على الأضرحة وأكوام الركام، فماذا يمكن أن يُعمل حيالهم بعد أن اكتمل عقد من الزمان وشعب بكامله إن لم يمت بالقصف فيموت بطيئاً في الانتظار، وما أقسى أن يعيش الانسان منتظراً الموت لا الفرج.
غزة الآن تنقسم إلى قسمين، قسم يقيس المسافة نحو أوهامه بالجثث والدمار، والقسم الآخر لا يجرؤ على البوح خشية أن يتهم بالردة والنكوص عن الهدف الأسمى.هي معادلة مأساوية كانت وما تزال كلمة السر في استمرار المأساة وتماديها والابتعاد السحيق عن إيجاد مخارج منها.
لم يجرؤ أحد حتى الآن على وضع النقاط على الحروف، والقول صراحة إن ما دفع حتى الآن لم يقرب أحداً ولو خطوة واحدة نحو الهدف، وكم يا ترى بلغت تكلفة الأجندات المجيدة؟ وهل لو استمرت الأمور على ما هي عليه الآن سنصل أو نقترب؟ إن ميزان الربح والخسارة الذي حكم سلوك البشرية في نضالاتها العادلة يبدو غائباً عن حياتنا وساحاتنا، وإن مراجعة سياسة بذل تحت شعاراتها دم غزير، هل ما تزال بعد كل الذي حدث من المحرمات؟ وهل من يفكر في هذا الأمر خارج عن الوطنية والشرف والانتماء؟
لقد كبرت كارثة غزة وتفاقمت، فهل نتوقع وحياً عقلانياً يهبط من السماء، ليهدي القوم إلى حل ربما يبرؤهم من دم غزة، أم نظل في قلب الدوامة حيث الأثمان المضاعفة تدفع مع استمرار الاحتلال والانقسام؟
إن غزة لا تدفع فقط ثمن الانقسام والاحتلال، وإنما تدفع فوق ذلك ثمن تحولها إلى حقل تجارب في أمر الحلول، والحل الذي لا يجدي ثمنه موت بطيء أفدح من أي موت آخر.
إن لمعضلة غزة حلٌ واحدٌ ولا أمل بأي حل غيره... أن تعود بمن فيها ومن عليها إلى البيت الفلسطيني شقيقاً شريكاً في المغنم والمغرم، فلا أمل ببلورة دولة داخل سجنها الضيق، وكل الأمل لها حين تكون جزءاً من الوطن كله، وعلى الجميع تذكر كيف كان حال غزة قبل الانقسام، وليقارنوه بأمانة مع حالها الآن.