سبعون ربيعاً ويزيد من عمر شاعر عربي فلسطيني كبير بحجم الراحل أحمد دحبور حملت في طياتها محطات لقحها بأعمق الجبهات وعمدها بأبهى وأجمل أبيات القصيد ما بين نيسان الانبعاث ونيسان الرحيل، كتب بالشعر ما يليق بفلسطيننا الكبيرة من أغاني للعاشقين، من عود اللوز الأخضر فيدار حيفا إلى الولد الفلسطيني في خيام حمص، الولد الذي كتب جيل المذبحة بحبر الحالمين بعودة النوارس المهاجرة إلى الشاطئ، شاطئ حيفا ويافا وغزة وصلاة في القدس والخليل، ما أجمل أن يُكتب بحبر الروح من فيض القلب بما يجود من شوق وحنين لملح هذه الأرض المقدسة، لأزهار اللوز ونوار البرتقال وأشجار الزيتون العتيقة المنغرسة في أحضان جبال رام الله ونابلس، لرائحة الرمل الكنعاني من رفح حتى جنين، ما أجمل هذا الحبر الذي كتب به دحبور ما تستحق هذه الفلسطين العظيمة!
طرت بذاكرتي بعيداً إلى مطلع هذه الثمانينيات يوم كنت فتياً وأحب سماع أغاني فرقة العاشقين التي كانت تلهب مشاعرنا حتى عرفنا بأن من يكتب هذه الكلمات الجميلة هو الشاعر أحمد دحبور فاندغم في وجداننا وصرنا نعشق قصائده وأشعاره ونحرص على قراءة ما أنتج والاستماع إلى ما يلقي من أشعار كلما أمكن ذلك، عرفنا كيف للورد أن يتكلم وكيف للشعر أن يصوغ حكاية الولد الفلسطيني الممتلئ بالحب لحيفا وكل فلسطين المسكون بها والمسكونة به، هذا الأحمد الذي انجبل بترابها وبرمل شواطئها ونقش على صخور جبالها قصائده العذبة وغرس فوق روابيها أعواد اللوز الأخضر ونهل من وديانها حبر بحور الشعر؛ حتى صار اسما من أسماء فلسطين وواحد أهم أعمدة أدبها وقامة كبيرة أسهمت في بناء المشهد الفلسطيني وأسمنت المكتبة العربية والفلسطينية بسخاء ما أنتج من رصيد يحسب ويسجل له في سفر الخالدين.
التقيت به آخر مرة في مخيم اليرموك بدمشق عام 2010م يوم أن أحيت فرقة العاشقين حفلاً لمناسبة ذكرى رحيل الشهيد ياسر عرفات وانطلاقة الثورة الفلسطينية والذي نظمته منظمة التحرير الفلسطينية حيث كرمته على شرف هذه الذكرى، تأثرت كثيراً لما رأيت ملامحه وقد تسلل له المرض والعجز عن الحركة وانكماش حيويته المعهودة؛ إذ لم يعد يقوى على المشي بدون عكازة يتكئ عليهاوذلك بسبب وعكة صحية ألمت به وأدت إلى اصابته بشلل جزئي أفقده توازنه وعدم قدرته على الكلام؛ فتذكرت صوته الدافئ والشجي المشتعل بقصائده الجميلة والرائعة، عرفت حينها بأنه عاد ليقيم في حمص بعدما ضرب الانقلاب غزة ووقع الانقسام بينها وبين الضفة الغربية، وعلى الرغم من مرضه إلا أنه حرص على الكتابة الدورية في جريدة البعث السورية، وكنت أتابع ما يكتبه وأحرص على قراءة حروفه في الزاوية المخصصة له والتي كانت تحمل رؤيته في مختلف قضايانا العربية وشتى المجالات السياسية والثقافية.
كنت أتمنى أن يقيم في دمشق كي يتسنى لي فرصة رؤيته بشكل دائم، لكنه اختار حمص ومخيمها مخيم العائدين لللاجئين الفلسطينيين لإقامته؛ ففيه أيام الصبا والشباب وأحلام العودة والسفر بخياله إلى حيفا، كما لم أكن أتمنى أن تعصف بسورية هذه الأحداث التي عصفت بها لتنال منها رياح ما سمي بالربيع العربي؛ الأمر الذي لم يمهله طويلاً في الإقامة مجدداً في فيهافعاد إلى رام الله، ولم يتسن له العودة لبيته في غزة؛ علني أراه فيها بعدما عدت أيضاً من دمشق لغزة، كما لم تسنح لي فرصة اللقاء به في رام الله يوم أن زرتها مؤخراً، وعندما اشتد عليه المرض بت كغيري أتمنى له السلامة والبقاء ريثما يكتمل نصاب قصيدته في حيفا مسقط الرأس التي أحب، لكنه رحل قبل أن يتم هذا القصيد.
رحل الولد الفلسطيني قبل أن يعود إلى حيفا؛ ليغرس عود اللوز الأخضر في كرملها، رحل وظلت روحه معلقة في داليتها، رحل قبل أن يتوج الديوان بنشيد النصر.
نبكيك يا أحمد لأنك فينا في حمص ودمشق في غزة ورام الله في القدسوكل الأماكن التي أحببت، أما حيفا فستظل تحلم بزارع عود اللوز الأخضر في انتظار الولد الفلسطيني؛ ليغرسه عالياً فوق الكرمل.