الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

رسائل بالاتجاه المعاكس بقلم: جاد عزت الغزاوي

2017-04-21 01:34:51 PM
رسائل بالاتجاه المعاكس
بقلم: جاد عزت الغزاوي

1

بعد أَن تكشّف الرّخام وما عليه من رذاذ مبعثر،

 رحتُ أتلألأ كلّما مرّ الضوء من فوقي.

 

لم أكُن هُنا يَوماً، بل هُناك، على هامشِ الأحداثِ المُبهمة، حتّى أنّني لم أُكمل أيّ من الطرق التي سلكتها، لِتمضي كلّها إلى عميقِ نفسي، فأكادُ أراها مشرعة على عذاباتي، توقظُ اللّيل فيّ، مُتعثّراً في الظّلام كلّما حاولت أن أستيقظ.

 

كلّ ما أُريدُه هو أن أَرى، أن أتذكّر، دون اكتراثٍ بالخوف الرّابض خلفَ هذه المجازفة، ربّما هو الحنين إلى حبات المطر المبعثرة على رُخامِ روحي، المحبوسة بين جدراني، أتحكّمُ بحجبها بعنادٍ جارف، لأبدو منفصلاً، بعيداً عن جذوري، أواجِه العواصفَ دون أغصان.

 

منذُ زمنٍ قريب، بدأتُ أَدركُ أنَّ ثمّة حدود تمنعني من التبصّر في الذّكرى، وأن عليّ تخطي السّياج لأصبح الذّكرى ذاتها، وأن أُعيدَ للأحداثَ نبضها، وبِبراعةِ الرّائي أًعبرُ إلى زحمةِ التّفاصيل.

 

هل يعني ذلك أنني عرفتُ كيفَ أشعل حريقاً ضخماً لا يمكنُ إخماده؟ وأنني سوف انتحر في الوقت المناسب قبل وصول النيران إلى أوراقي مثل عقربٍ متمرسة؟  

 

لا يهم، قلتُ أنني لن أكترث، لن أهربَ هذه المرّة، قد تكون الفرصة الأخيرة، لنكونَ معاً هنا، انا وانت.

 

سأكون البكاء المستمر على مذبح الوقت، حتى أُكمل سفري الهجين على متنِ سفينة تجوبُ بحرَ الحياة، ناسياً أنني كنتُ في بردِ مياههِ يوماً، تصطدمُ أمواج المتخيّل فيه مع الواقع، ليصطرعان بعنفٍ شديد، حتى ينتصر الخلاص، وينبلج النّور.

 

2

أنا الذكرى، أكتُبُ عن زمنٍ لم أعشهُ وعن آخر ولدَ معي،

لا ضير في ذلك، فكلانا أمّنا الحياة.

 

من غرفتي، أخاطبُ الجدرانَ والنوافذ ومِرآتي، المرآة التي ابتاعها لي أبي، حينها قال لي: المرآةُ خطيرة كَفَخّ، لا تنظر اليها وأنت وحدك .

 

وها أنا ذا أتمرد على وصيته وأنظر في الفخِّ ..  أسلمت عيْنيّ لبريقِ المصيدة، ومن غرفة نومي افتحُ أبواب فنائي الجديد في انتظار تيهٍ آخر وولادة مُبتكَرة. عليّ ان أكون وسيلة المرآة كي ترى نفسها.

 

(المصيدة لم تكن المرآة إنما العين التي حملقت بها) [تلك علاقة جدلية بين المرآة والعين وإناء الماء]       

كم من مرّةٍ تمنّيتُ الخلاص والتوحّدَ مع الغمام، الغروب، برتقالة في السّماء، وهضابُ قُطنٍ ألقَتْ بمائها، خفيفةً تطفو فوق المدى، صوتُكَ رحيل، والصدى ذوبانٌ يسيل في حضنِ السّحابات.

 

كُنت نحّاتَ ماءٍ في خليجِ الوقت أجرُّ سلاسلَ المحال، عن ماذا بحثت في غبار الحياة؟ والى أي الطرق ذهبتُ؟ حتى قطعني وميض الحلُم في غفلة من نومي، لأصحو على رعشة في الفؤاد.

 

ماذا أقول للبحر كلّما مدّ ذاكرته. لطالما شعرت أن داخلي مشوّهٌ بفعل مكان ولادتي، ساحلٌ بلا ماء، الأسيجة والحواجز في الشمال جعلت مني بذرة ناقصة نبتت في السهل الفقير، وعندما كبرتُ لسعتني غُربةُ الماء ورأيتُ أمواجَ المتوسط تجيء وتذهب بين أرضيْن، برتقالٌ ينظرُ للبرتقال.

 

نيقوسيا المُقسّمة ترمم جراحي كي أراكَ هناك بعد عامين من موتك، مسحتَ التراب عن كتفي، ووضعتَ راحتكَ على وجهي، أيُّ حياة تنبثق من موتٍ في يدكَ، خسارتي مرغوبة في لقاءِ طيفكَ، رجل يشبهك، نحيل الجسد، أبيضُ الرأسِ يذرع باحةَ الفندق ويتفقّدُ الهواء والزّجاج.

 

عَبرتُ الزّمان وعدتُ إلى السّهل، هناك أدرتُ وَجْهِيَ عنّيَ، وبَكَيْت، بكيْتُ في حقلِ القمحِ المنسيّ، من يتسلّق من، أنا أم التراب، كلّما مشيتُ أنقص ليزداد بانكماشي، ويبقى القمحُ منسيّاً.

 

والقمحُ لون بشرتي وسرُّ أبي على عتبة بيته القديم هناك في ريف الشّمال، دير الغصون، حيثُ أغصان الزيتون وألواحُ الضوْء وجرار الذّهب المحروق، وأحاديثُ جدّتي.