الحدث الثقافي
لم تُتح لي الفرصة لأحضر عرض ديوان الشّاعر محمّد شريم الّذي أطلق عليه اسم (جواهر الحكمة في نظم كليلة ودمنة) ، ولكن في لقاءٍ أدبيّ جمعني معه أهداني الدّيوان ، وجلست طويلًا مع الكتاب أتذوّق قصصه وحِكَمِه التي صِيغت بقالبٍ شعريّ ، وقد أحببتُ أن أكتبَ عن هذا الدّيوان ولو بنزرٍ قليلٍ من الكلمات ، ولا بدّ من القول في بداية عرضي أو رأيي في هذا الدّيوان : أدهشتني الفكرة ، وقلتُ للشّاعر: أحقًّا ما قمتَ به ، أحقًّا حوّلت النّثر (بقصصه المختلفة والعديدة) إلى شعر؟ قال لي الشّاعر محمّد شريم : نعم فعلت.
قرأت الكتاب كلمةً كلمة ، سطرًا سطرًا، صدرًا وعجزًا ، وأخذ منّي الكتاب وقتًا طويلًا مستمتعًا بأحاديثه وحكَمِه ، بفصاحة شعره ، وبساطة عرضِه ، كلامٌ نثريّ تحوّل إلى نظمٍ شعريٍّ ، يا له من عملٍ يستحقُّ التّقدير! يستحقّ أن يُكتب عنه ، لذا أردتُ أن أستعرض معكم فصول هذا الدّيوان .يبدأ الشّاعر بمقدّمةٍ شاملةٍ حوت السّبب الّذي جعله يحوّل كتاب كليلة ودمنة -المتضمّن قصصًا رواها بيدبا الفيلسوف لملكه – إلى شعر فيقول أنّ الّذي دفعه إلى هذا العمل:
أوّلًا: إعجابه بالحكم الواردة في كتاب كليلة ودمنة (الأصل) والّذي ترجمه ابن المقفّع (أو هو مَن وضعه) فأراد شريم أنّ يستبدل حلاوة الشّعر بطلاوة النّثر، بكلام العصر لا بكلامٍ أخذ عليه الدّهر بعيدٍ عن متناول الجميع.
ثانيًا: رغبتُه في بقاء هذا الكتاب عنصرًا هامًّا في مكتبة المثقّف العربي ؛ ليكون مرجِعًا لمن شاء من القرّاء، أكان من الخطباء أو الأدباء أو من الإعلاميّين ، أو من أهل الفن، أو من المربّين ، أو من الطّلبة أو...........ليجدَ فيه ضالتَه من الحِكَم بأبعادهاالثّقافيّة والتّربويّةٍ والاجتماعيّةٍ والسّياسيّةٍ ويعودَ إليها عندما تقتضي الضّرورة في أيّة مناسبةٍ تُتاح.
لقد اتّبع الشّاعر شريم خُطى شاعرين سابقين قاما بنظم كتاب (كليلة ودمنة ) شعرًا وهما شّاعران عبّاسيان. الأوّل هو أبان بن عبد الحميد الّلاحقي ، الّذي نظم الكتاب بإلحاحٍ من يحي بن خالد البرمكي بأن ينظم كتاب كليلة ودمنة َ شعرًا مقابل مكافأةٍ ماليّةٍ ، وجاء في مقدّمة كتابه المنظوم :
هذا كتابٌ أدبٍ ومحنة وهو الّذي يُدعى كليلة ودمنة
والثّاني ابن الهبارية ، وحسب ما يقوله الشّاعر محمّد شريم أنّهما نظما مقدّمة الكتاب شعرًا أيضًا ، ويعلّق على هذا الموضوع بإيراد سبب عدم نظم مقدّمة كتابه شعرًا كما فعل هذان الشّاعران أنّ النّثر أسهل في نقل الفكرةالتي تحمل الطّابع العلمي والعملي من الشّعر ، وأناأوافقُه على هذا الرّأي .
ثمّ يلجأ الشّاعر إلى شرح خطوات هذا العمل الجبّار الّذي أخذ منه جهدًا ووقتًا يزيد عن عشر سنواتٍ من العمل المتواصل . يا له من صبرٍ وجلدٍ لا مثيلَ له ! سنوات طويلة كان من الممكن أن يبدع في أعمالٍ شعريّةٍ أخرى أسهل وأقلّ جهدًا ووقتًا ، ولكن وضع أمامه هدفًا أراد أن يحقّقه ففعل .
ثمّ يشرح الشّاعر الخطوات التي قام بها في إعداد كتابه ، من مراجعة طبعات الكتاب الأصلومن إنجاز مُسوّدة نظْم الكتاب ، وما تبع ذلك منتدقيقٍ وتنقيحٍ وحذفٍ وإضافةٍ واستعمال الحاسوب لتسجيل ما توصّل إليه ، وقد نوّع الشّاعر بين البحوروحروفِ الرّوي فارتأى أن يكون لكلِّ حكاية بحرُها ورويُّها الخاص ، وأن يكون البحر وحرف الرّوي في الحكاية الفرعيّة مختلفين عنهما في الحكاية الأم ، إلّا إذا كانت الحكاية الفرعيّة جزءًا لا يتجزّأ من الحكاية الأم .
ويشرح لنا الشّاعر أقسام كتابِه، فقد بدأه بمقدّمة شرحتُ بعضًا منها ، ثمّ قام بعرض الحكايات بقالب الشّعر مع الأمثال والحكم التي احتوتها ، ثمّ انتقل إلى تصنيف (خزانة جواهر الحكمة) حيث جمع فيه الحكم الشّعريّة التي اقتطفها من الحكايات والأمثال،ثمّ إلى التّصنيف المسمّى ( صناديق جواهر الحكمة) والمرتّبة ترتيبًا هجائيًّا وفق حروفِ أسمائِها ، وبهذه الصّناديق مع مفاتيحها يستطيع القارئ أن يعود إلى كلِّحكمةٍ وردت في خزانة جواهر الحكمة وبالموضوع الّذي يريده .
ولا بدّ أن أشير إلى أنّ بعض الحكايات احتاجت إلى الكثير من الأبيات ، ولكم أنْ تتصوّروا مقدار الجهد الّذي بذله الشّاعر في إخراج هذا المولود إلى الحياة ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ( باب الجرذ والسّنّور) زاد عن مئة وعشرين بيتًا ،أمّا باب الأسد والثّور،وهو أكبرُ الأبواب فقد زاد عن المئتين وخمسين بيتًا، وغيرها كثرٌ من الأبواب الأخرى .
إنّ هذا الدّيوان بما فيه من سردٍ للأبيات بطريقةٍ سهلةٍ على القارئ ، وتفسيرٍ لكثيرٍ من المفردات في أسفل الصّفحةِ يُعتبرُ مرجعًا هامًّا لمتذوّقي الشّعر ، وللمستمتعينبالحكم التي وردت فيه ، ولذا من الضّروري أن أختار بعض الحكم كخاتمةٍ لهذا العرض:
1-لا تفنَ حزنًا ليس فقرُكَ وصمةً كم أكرموا رجلًا بغيرِ غناءِ
فالأُسُدُ تفرضُ هيبةً بربوضِها وترى غنيًّا مُزدرًى كغثاء
والكلبُ والذّهبُ المرصّعُ طوقُه لن يُكرموه لطوقهِ الّلألاءِ
2-والخلُّ يقطعُه الخليلُ لفقرهِ ويصيرُ ممقوتًا من الرّفقاءِ
3-ومَن يجهلِ النّقسَ ثمّ العدوّ وقاتلَ في حالِ ضعفٍ خسر
4-تهونُ صعوبةُ لذعِ الجمارِأمامَ صداقةِ خِلٍّ فجَرْ
5- كم كانَ سهلًا أن نفوزَ بمطلبٍ ومن الصّعوبةِ حِفظهُبثباتِ
6- كم جاهلٍ ساقه جهلٌ إلى عملٍ ما كانَ يُتْقِنُه فاستجلبَ العَطَبا
هذا غيضٌ من فيض حِكمٍ حواه الدّيوان ، ومَن يريدُ الاستزادة فليرجع له ، ليستمتعَ أكثر منها ومن القصص التي نُسِجت شعرًا سهلًا ليّنًا ومستساغًا ، وكل التّقدير للشّاعر على هذا الجهد ، وإلى مزيدٍ من العطاء .