الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الدَّولةُ الفلسطينيَّةُ الكامِنَة في محادثات السَّلام منذ كامب ديفد الأولى " بقلم: رائد دحبور

2017-05-08 10:39:38 PM
الدَّولةُ الفلسطينيَّةُ الكامِنَة في محادثات السَّلام منذ كامب ديفد الأولى

منذ مؤتمر مدريد عام 92 ومن ثم التوقيع على اتِّفاق أوسلو أيلول عام 93 جرى تصوير مناقشة مفهوم الدولة الفلسطينيَّة أو الكيان السياسي للفلسطينيين وكأنه نقاشٌ مستحدث وُلِدَ وانبثق بشكلٍ دراماتيكي مفاجىء من رحم تلك المرحلة وتحت ضغوطٍ دوليَّة فُرِضَتْ على إسرائيل، لكن لدى مراجعة جملة من الوثائق الإسرائيليَّة التي يعود تاريخها إلى أواسط حزيران عام 67 أي بُعيد انتهاء حرب عام 67 بأيامٍ قليلة وكذلك لدى مراجعة سياق الدبلوماسيَّة الأمريكيَّة منذ عام 74 يتضح خلاف ذلك التصور.

 

فمنذ البداية كانت هناك قناعات ومنطلقات مشتركة إسرائيليَّة أمريكيَّة تجاه دبلوماسيَّة السلام الأمريكيَّة في المنطقة، وتجاه الحقوق السياسية للفلسطينيين وأهمُّ تلك القناعات والمنطلقات كانت:

 

ضرورة التمييز بين مفهوم حدود الرابع من حزيران بين الدول العربية وإسرائيل – بحيث أنَّها في جوهرها تعكس حدود الانتداب الإنجليزي على فلسطين – وبحيث يمكن اعتبارها حدود خارجية، وبين تلك القائمة في الضِّفة الغربيَّة كونها حدود داخلية ضمن حدود الانتداب وليست خارجه، وبحيث أنَّها تمثِّل حدود وقف إطلاق النَّار على الجبهة الأردنيَّة الإسرائيليَّة كنتيجة من نتائج حرب عام 48 وبإزاء ذلك ضرورة البحث عن صيغة كيان سياسي يمثل تطلُّعات السُّكان العرب داخل تلك الحدود، وبحيث يكون هدف دبلوماسية السلام الأمريكيَّة هو البحث الدَّائم عن صيغة وفرصة للتعايش قابلة للاستمرار بين إسرائيل وجيرانها وبين إسرائيل والفلسطينيين دون المجازفة بأيٍّ من مصالح إسرائيل الأمنيَّة ودون مقايضة ذلك بأيٍّ من قناعاتِها الآيدولوجيَّة أو اللَّاهوتيَّة تجاه الأرض والمكان، وضرورة أنْ تبقى دبلوماسيَّة السلام أو الوساطة للوصول إلى حلولٍ سياسيَّة وإجرائيَّة حكراً على الولايات المتحدة، مع ضرورة العمل على عزل باقي القوى الدولية وخصوصاً الدول الأوروبيَّة – الاتحاد الأوروبي حالياً - والاتحاد السوفييتي السابق- روسيا حالياً - عن دورٍ جوهريٍّ ومحوريٍّ في تلك العمليَّة.

 

بعيْدَ حرب أكتوبر عام 1973 وما تبِعَ ذلك من حركة دبلوماسيَّة أمريكيَّة نشطة بقيادة هنري كيسنجر وفي عهد ولاية ريتشارد نيكسون، وهو ما أفضى إلى توقيع معاهدة السلام مع مصر بحلول نهاية عقد السَّبعينيَّات، وعقب اندلاع أحداث الانتفاضة الفلسطينيَّة الأولى نهاية عام 87 كان ثمَّة قناعة تترسَّخ في إسرائيل وربَّما لدى العديد من الدُّول العربيَّة مؤَدَّاها: أنَّ إسرائيل قد بلغت من القوَّة مدىً لا يمكن معه هزيمتها عسكريَّاً أو إجبارها على تقديم تنازلاتٍ لا توافق رؤيتها الخاصَّة لضروراتها الأمنيَّة أو الاستراتيجيَّة، ولكن وفي الوقت ذاته ومع عجز إسرائيل عن معالجة أحداث الانتفاضة أمنياً وعسكريَّاً كانت هناك قناعة أخرى تتبلور لدى إسرائيل وهي أنَّه يستحيل هزيمة منظمة التحرير الفلسطينيَّة سياسياً على المستوى الدَّولي والإقليمي وبما تمثِّله من تطلُّعاتٍ وأهدافٍ سياسيَّة مشروعة لعموم أبناء الشعب الفلسطيني في الدَّاخل والخارج، خصوصاً بعدما تمَّ الذَّهاب إسرائيليَّاً وحتَّى أبعد مدىً في محاولة عزلها أو تقليص حدَّة تأثيرها السِّياسي من خلال غزو لبنان صيف عام 82 ومحاصرة بيروت وإخراج قيادة وهيكل منظمة التحرير البنيوي إلى المنافي.

 

قبل صيف عام 82 وقبل أحداث انتفاضة عام 87 وحتَّى في عهدِ حكومة مناحيم بيغن ولدى التَّوقيع على معاهدة كامب ديفد مع مصر عام 79 وما تضمَّنته من ملاحق تتعلَّق بصيغ الحكم الذَّاتي للفلسطينيين كان مفهوم الدَّولة الفلسطينيَّة أو الكيان السِّياسي للفلسطينيين كامناً بين سطور تلك الملاحق، إذْ كان من الصَّعب تجاهل لبّ وجوهر الصِّراع المتصل بخضوع الشَّعب والأرض الفلسطينيَّة للاحتلال وللحكم العسكري الإسرائيلي، لكن إسرائيل حاولت ومن خلال تلك الصيغ أنْ تعطي تفسيراً آخر مختلف لمفهوم الاحتلال؛ فهي لم تُقر بواقع احتلالها للأرض كون هذه الأرض تعود لها وفق تصورها، في حين اعتبرت أنَّها تحتل شعب يعيش على أرضٍ متنازع عليها لها فيها حقوق تاريخيَّة ودينيَّة لا يمكن مقايضتها بالسَّلام تحت أيِّ ظرف. في هذا السياق جرى التعامل ولدى كلا المشهدين الإسرائيليين من يمينٍ ويسار مع مفهوم الكيان السياسي للفلسطينيين الذي يجب أن يبقى خاضعاً لنقاشٍ طويل، وهو ما تكرِّسه مراراً وتكراراً حركة الدبلوماسية الأمريكيَّة في كافَّةِ عهود الإدارات الأمريكيَّة المتعاقبة منذ نيكسون وحتَّى ترامب.

 

إذا كان من الممكن الاستشهاد ببيت الشِّعر الذي يقول: إذا ظهرت لبيبة فاسألوها فإنَّ القولَ ما قالت لبيبة؛ فإنَّه يمكننا الاستشهاد بأقوال لبيبة الأمريكيَّة والتي لا غنىً أمريكيّ أو إسرائيليّ عن ظهورها وعن أقولِها في كلِّ مناسبة، وهي تشرح بإسهابٍ المنطلقات والقناعات المشتركة بين دبلوماسية السلام الأمريكيَّة والمواقف الإسرائيليَّة الجذريَّة، لكننا سنكتفي هنا بمقتَطَفٍ هو غيضٌ من فيضِ ذلك الشرح المُسْهَب:

 

فقد كتبَ هنري كيسنجر في كتابه بعنوان "نحو دبلوماسيَّة أمريكيَّة في القرن الحادي والعشرين" الصَّادر عام  2003 وتحت فصلٍ بعنوان الصِّراع العربي الإسرائيلي:

بحلول العام 2000 صار العالم معتاداً على سماع عبارة السَّلام في الشرق الأوسط لدرجة أنَّه بات من شبه المنسي ذلك التاريخ القاسي والمرير الذي سبق هذه العملية. في ظروفٍ تصطدم فيها طموحات المطالبة بأرض الأجداد القديمة – ويقصد بذلك مطالب الجانب الإسرائيلي - بمقاومة أولئك الذين عاشوا هناك في الفترة الفاصلة – ويقصد بذلك الفلسطينيين – بحيث يصعبُ إيجاد أساس مشترك للحوار، إذْ يلوذُ كلُّ طرفٍ إلى المراوغة عند محاولة تعديل معتقدات الأجداد. تحتاج المفاوضات العربيَّة الإسرائيليَّة إلى التوفيقِ بين القضايا الإقليميَّة والاستراتيجيَّة – أيْ مادَّة الدُّبلوماسيَّة – ومسائل الآيديولوجيا والدِّين والشرعيَّة – أيْ مادَّة اللَّاهوت. تُطالب الدُّول العربيَّة إسرائيل بالتَّخلِّي عن الأراضي المحتلَّة، وهو شيء ملموس

 

في مقابل الاعتراف في حقِّها بالوجود، وهو شيء يمكن إلغاؤه، وتُكافىءُ نقطة الانطلاق لمعظم المفاوضات – قبولُ الوجود الشَّرعي للأفرقاء – وهي المُحَصِّلة غير المؤكَّدة لدبلوماسيَّة السَّلام العربيَّة الإسرائيليَّة. إنَّ العقبة الأساسيَّة أمامَ بلوغ دبلوماسية السلام ذروتها هي المفاهيم المتباينة للفرقاء المعنيين، فالإسرائيليُّون والأمريكيُّون يُعرِّفون السَّلام بأنَّه تسوية تُنْهي الدَّعاوى وتُحدِّدُ وضعيَّة شرعيَّة دائمة، وبعبارة أخرى، إنَّهم يُطبِّقون مفاهيم الدِّيمقراطيَّة المتحرِّرة للقرن العشرين، لكن العرب وخصوصاً الفلسطينيين يعتبرون إسرائيل دولةً دخيلة في الأراضي العربيَّة المقدَّسة، وقد يقبلون تسوية حول الأراضي لعدم وجود بديلٍ أفضل، لكنَّهم سيتعاملون مع القضية كما أذعَنَتْ فرنسا لضم ألمانيا لإقليميِّ الألزاس واللُّورين سنة 1870 كضرورة ممزوجة بالتَّصميم على الانتظار ريثما تحين فرصةً لاستعادَةِ ما فُقِدْ، وحتَّى نكون مُنصفين فإنَّ الخطاب الدِّيني يشكِّلُ جزءاً من الخطاب الإسرائيلي أيضاً وذلك فيما يخصُّ عدم تقسيم مدينة القدس على سبيل المثال. تواجه المفاوضات الإسرائيليَّة الفلسطينيَّة عقباتٍ فريدة من نوعها فحدود إسرائيل مع مصر وسوريا والأردن عكست من حيث الجوهر الحدود المعترف بها دوليَّاً للانتداب البريطاني على فلسطين، لكن خط التقسيم في الضفة الغربية استند إلى وقف لإطلاق النَّار".