الاجترار هو تكرار الشيء دون الإتيان بشيء جديد مثل اجترار الأمجاد مثلاً، أي ذكر أمجاد من سبقوا بشكل متكرر دون الإضافة لهذا المجد بعمل جديد. وفي كل الأحوال، يكون الاجترار فعلاً لا يُحدث تغييراً إيجابياً لأن أقصى ما يمكن أن يحققه هو كسب الوقت أو تحصيل جرعة إضافية من الحياة أو الانتباه أو التمجيد. لكن أخطر ما يمثله الاجترار هو الإفلاس الذي يعكسه في الفكر وهنا يكمن الخطر الداهم.
في حياتنا، هناك الكثير من حالات الاجترار التي لا ينتج عنها سوى الانفعال اللحظي والإحباط على المدى البعيد. نعرض شعبنا لحالة مزمنة من اللطم والحنين لما كان والمطالبة باجتراره رغماً عن الطبيعة والسياق المتغير والمعطيات المتبدلة وعند الفشل، يكون المردود مزيداً من الإحباط والغضب.
نتغنى بالانتفاضة الأولى وأساليب نضالها التي كانت نتاج إبداع ونضال في حينه ونلعن الزمان الذي لا يمكننا من اجترار هذه التجربة بحذافيرها وكأن هذه الأمنية ممكنة التحقيق. ونتجاهل في محاولتنا للاجترار هذه أن شعبنا خاض انتفاضة ثانية وفشل في تكرار التجربة الأولى لا لخلل بنيوي فيه أو بسبب مؤامرة، بل لأن طبيعة الحياة هي التجدد والتغيير ولا شيء في هذه الدنيا يقبل الانتظار.
ندعو للإضراب العام رغم معرفتنا أن هذا الأسلوب الهام من العصيان المدني كان أسلوباً نضالياً وفعالاً قبل ثلاثين سنة، وكان مؤلماً للاحتلال في حينه لكنه لم يعد كذلك اليوم، خاصة وأنه لا يتزامن مع ابتكار فعل آخر موازٍ لتحقيق الهدف الذي كان يحققه الإضراب وحده أيام الانتفاضة الأولى. هذا كان جليّاًقبل أسبوعين تقريباً، حين نجحت دعوات لجان مساندة إضراب الكرامة الذي يخوضه الأسرى لإضراب شامل في كل مدن الضفة الغربية. المشهد كان قوياً لكنه في العمق كان محاولة لاجترار تجربة لا تشبه في معطياتها أي شيء في واقعنا اليوم،ولم ينتج عنه سوى التعبير اللحظي عن التعاطف بينما لم يكرس أيّ قواعد أو مفاهيم جديدة للعمل. هذا ليس تقليلاً من شأن الإضراب والتفاف مليونين ونصف من الفلسطينيين حول مطالب الأسرى وإيمانهم بأهمية تحقيق الأسرى للنصر في معركة الكرامة هذه. لكن التقييم لأي تجربة ضروري والمهم في أي فعالية هو معرفة الهدف منها وقياس مدى فعاليتها وهذا ما يفتقره العمل الفلسطيني في كل المجالات وعلى رأسها العمل النضالي.
وفي مجالات الشعارات، الاجترار هو العنوان وبشكل أفقد الشعارات وقعها وتأثيرها وجعلها أقرب إلى الموسيقى التي نسمعها في المطاعم فلا نحن نستمع لها أو نطرب لسمعها ولا هي توصل رسالة فنية بأي شكل من الأشكال. وفي هذا السياق، مهم أن ندرس على سبيل المثال لا الحصر الشعارات التي نقرأها كل عام في أيار حول النكبة وحق العودة. الشعارات مجترة وباهتة وغير مرتبطة بأي فعل مبتكر ومتجدد للتأكيد على حق العودة أو ضرورة الاعتراف بالجريمة التي ارتكبت بحقنا على المستوى القانوني والإنساني. الاجترار وانعدام الابتكار حول إحياء ذكرى النكبة من مناسبة لتجديد النضال إلى حدث روتيني باهت تنتشر فيه اليافطات التي تؤكد على المؤكد وتكرر المكرر ولا تحرك فينا ساكناً وتبقى معلقة في الشوارع إلى أن تنال منها عوامل الطبيعة.
نجتر المطالبات والمواقف من كل شيء حتى بات من الطبيعي أن نسمع شخصية قيادية في فصيل ما تطالب الفصائل والقيادة بالتحرك دون أن نندهش من الانفصام الكامن في تصريح الشخصية القيادية تلك.
نجتر الحسرة على انعدام تعاطف العالم معنا لكننا نستمر في الحديث مع أنفسنا ولا نخاطب العالم بلغة يفهمها ونستغرب في كل منعطف مما نعرفه مسبقاً حول العالم المنشغل بغيرنا. نجتر لعنة العالم الذي لا يحرك ساكناً عندما نُقتل ونُشرد ويقترب أسرانا من الموت نتيجة إمعان إسرائيل في قمع إضرابهم لكننا لا نصارح أنفسنا حول المعطيات في الواقع الدولي والإقليمي وما يمكن أن ينتج عن أي حراك أو هبة غضب حول أيّ واحدة من تلك القضايا الهامة. نجتر الحديث عن ضرورة التخطيط والإعداد والتوعية لكننا في كل مرة نتعامل مع الأحداث مهما كبرت بارتجال وانفعال يرتد علينا ولا يساعدنا.
نجتر ذات المقاربات والمعادلات حول السلام والحرب والحوار والحكومة والاقتصاد دون الالتفات للمعطيات المتجددة أو التقييم الموضوعي للتجارب السابقة. ونكرر الحديث عن المقاومة الشعبية والكفاح المسلح وكأن أيّ من تلك الدروب النضالية يمكن أن تشكل طريقاً سريعاً ومضموناً للخلاص في ظل انعدام رؤية واضحة وخطة شاملة تتمتع بالإجماع في الفكر التطبيق. نجتر ذات المفردات والشعارات الخشبية التي فاتها الزمان والمكان وبقيت حبيسة الذكريات ثم نغضب لأنها لا تحرك الجماهير الغفيرة التي مضى على تفاعلها العارم سنوات طويلة فنلعن سكوت الجماهير وعزوفها بدل أن نراجع أساليبنا التي فقدت قدرتها على التأثير.
الاجترار دليل إفلاس ووصفة سحرية للإحباط وتراكم الغضب لن ينتج عنها أي تطور نضالي بارز. جميعنا يدرك أن الشارع الفلسطيني يعيش حالة من الإحباط التي تقارب الشلل وجميعنا مسلمٌّ بأن هذا الإحباط خطير على مسيرتنا النضالية نحو الحرية كشعب وقضية. لكننا وفي اجترارنا للتشخيص هذا لا نتقدم خطوة إلى الأمام بل نعمق الإحباط والغضب الذي لن يتغير بدون رؤية تبتعد عن الخلاص الفردي أو الفصائلي وتعيد الأمور إلى نصابها الجمعي الصحيح.لن ينفعنا قبول حالة الاجترار لأنها ترحل الأزمات وتسمح لأطراف تعرف نفسها بصفتها بدلاً من فعلها وتأثيرها وطرحها بحرف الغضب وتوجيهه للداخل نتيجة عجزها عن ابتكار فكرة أو خطة.
الاجترار واستمرارية النضال خطان لا يلتقيان، فما كُتبت الحرية لشعب فقد قدرته على الابتكار في الأفكار والرؤى وأساليب النضال والتعبير. لا يعقل أن نبقى أسرى لوصفات وقوالب جاهزة تجاوزها الظرف وقفزت عنها المعطيات على الأرض. الهدف ثابت وهو الحرية لكن الوصول للحرية يقتضي العمل والتفكير والابتكار بطريقة تحدث تغييراً في عالمنا اليوم بدل أن نستسلم لحلقة مفرغة من الاجترارلا تنتج إلا الإحباط وهزيمة الذات.