حتَّى علي بابا لم يكن بوسعه أَن يتخيَّل أَنَّ الإنسان وحش هائل، حتَّى علي بابا الَّذي خاض حروباً بلا بداية ولا نهاية، لم يستطع أَن يتخيَّل بشاعة أَن يموت الإنسان في حوض أَسيد.
يحدِّثني عن أَبي، عن علاقتهما القديمة هما وفتحي، كيف كانوا أَصدقاء، وكيف ضمَّهما أَبي إلى فتح، وراحوا يهرِّبون السِّلاح والعتاد إلى الأَغوار، كانوا يحفظون الطَّريق شبراً شبراً، ويعرفون أَماكن الدَّوريِّات العسكريَّة، ومواعيدها.
- هل قتَلتَ أَحداً؟
- الموت في الحرب شيء مختلف.
- هل تزوَّج أَبي؟...
- لا أَظنُّ.
- من هي آذار إذن؟
- رحلَتْ....كان يعشقها...ورحلَتْ، ثمَّ قيل إنَّها ماتت.
- ومريم؟
- أَيَّة مريم؟
- أُمِّي في شهادة ميلادي...
- لا أَعرف، اسم وهميٌّ ربَّما..جدَّتك استخرجت لك شهادة ميلاد مزوَّرة.
شعرت بالمرارة، أبي مجرَّد رجل عاهر زرعني في أَحشاء أُمِّي وأَلقى بها إلى المزبلة، وأُمِّي عاهرة قضت ليلتها تلك معه، ثملين ربَّما، وتركتني أَضرب في أَحشائها تسعة أَشهر ثمَّ أَلقت بي أَمام الدَّير؟ لماذا لم تسقطني من رحمها قبل أَن أُصبح بشراً وتريحني من كلِّ هذا العذاب؟
كنت أَسأَل أبي "ميخائيل": هل جاءت امرأَة ذات يوم لتسأَل عن طفل تركته أَمام باب ديرك؟ فيمسِّد على رأسي، ويجيب بالنَّفي، وفي كلِّ مرَّة كنت أَسمع الجواب فيها، أُصاب باليأس والإحباط، كأَنَّني أَسمعه للمرَّة الأُولى، أُطأطىء رأسي، أَختلي بنفسي في المقبرة وأَستمني، وأَبكي.
أَنت لا تدرك كم بكيت، أَنا بكيت دموعاً بوسعها لو جُمعت أَن تغرق الأَرض وما عليها!
أَقول في ذاتي: لا بدَّ أَن تأتي، لا بدَّ أَن تسأَل عنِّي، لو لم تكن تخطِّط للعودة لما تركتني أَمام الدَّير، لو كانت لا تريدني لرمتني في أَقرب حاوية للقمامة ومضت في سبيلها، لكنَّها تركتني هناك كي تعود ذات يوم، فمتى تأتي؟
أَقف في الشَّارع، أُحدِّق إلى النِّساء، هذه أُمِّي، أَو ربَّما هذه هي أُمِّي، أَو ربَّما هذه، أَين مضت وتركتني في مملكة الوحل بلا سند ولا رفيق؟ ماذا يعني أَن تقضي عمرك كلَّه مخدوعاً تبحث عن أُمٍّ ليس لها وجود؟
يربِّت على كتفي، يواسيني، يشرب، ويحدِّثني عن بيروت، يشرب، ويحدِّثني عن بطولات كُلِّلت بهزيمة نكراء، يشرب، ويحدِّثني عن فلسطين....والشُّهداء.
- من سمَّاك علي بابا؟
- أَنا اسمي علي...يجيب، ويسكب كأسه في جوفه فأَشعر بذاك الحريق المشتعل في أَعماقه، أَقرؤه في عينيه، على شفتيه، يشعل لفافة "هيشي"، ويبصق....
- أَهل صور أَضافوا له "بابا"، كنت أُلازم شرفتي طوال اللَّيل بعد أَن خرجت من معتقل أَنصار، ورأَيت كيف كان العملاء في اللَّيل يضعون علامات خفيَّة على أَبواب بيوت المناضلين، ليأتي جيش الاحتلال في النَّهار ويقبض عليهم، فصرت أتسلَّل خلسة وأَضع العلامات ذاتها على الأَبواب كلِّها، ما كان يوقع الجيش في الحيرة والارتباك، وحين اكتشفوا أَمري واعتقلوني من جديد سمَّاني أَهل صور علي بابا.
كان الزَّمن قد ترك بصمات واضحة على وجهه، أَو ربَّما الخمر، أَو الحزن، لست أَدري، لكنَّ تجاعيد وجهه وتغضُّناته كانت تفوق تغضُّنات وجه رجل في مثل سنِّه في الأَربعين، كان بوهيميَّاً، ربَّما مثل أُمِّه في ذروة جنونها، يطلق لحيته بلا تشذيب، وشعره مسترسل على كتفيه، مقدِّمة رأسه صلعاء، وعيناه عسليَّتان حمراوان دائماً من أَثر الخمر، لكنَّهما تحملان براءة الأَطفال.
تزوره جدَّتي بين الحين والآخر، يسكب لها كأساً، تشرب معه، وتدخِّن "الهيشي"، تُخرج النَّاي من حقيبتها بعد أَن يرجوها أَكثر من مرَّة، تنفخ فيه، ينتشي، يدخِّن، ويبكي، ثمَّ يرفع يده في الهواء ويرجوها أَن تصمت.
- كفى، ما عاد بوسعي أَن أَحتمل أَكثر..
أَشرب معه، لا زال مسكوناً رغم الهزيمة بهاجس التَّحرير، يضحك، ويشتم الإخوان المسلمين، يقول إنَّ الدُّعاء لا يفجِّر دبَّابة، ولا يصنع قنبلة، ولا يُعيد فلسطين، يقول إنَّ التَّاريخ لم يرَ حضارة اندثرت وعادت، لا بدَّ للحضارة لكي تعود من أَن تتنفَّس وأَن تلبس ثوباً جديداً، لا بدَّ لها أَن تعيش الزَّمن الجديد.
حين يغرق في سكره يُخرج عُضوه ويقف بعيداً عن الحائط خطوة أَو خطوتين، ويبدأُ بالتَّبوُّل على الجدار، محاولاً أَن يكتب ببوله شيئاً ما....ينظر نحوي بعينيه الذَّابلتين الحمراوين، ويتمايل، ويتَّكىء على الجدار.
- أَكتب أَسماء الشُّهداء!
يضحك....
- أَلم يبولوا عليهم؟
يضحك، يتمايل، يعود مترنِّحاً، يرمي بجسده دفعة واحدة على الأَرض كأَنَّه كيس خيش مليء بالتُّراب، ثمَّ يستند بظهره على الجدار ويبكي كالأَطفال...
علي بابا مستسلم لتيَّار الماء الجارف يحمله إلى أَين يشاء، يقول: أنا بلغت آخر السَّعي، حاولت، وسقطت، فلا تلُمْني.
على الجدار صورته في حصار بيروت، وعلى كتفه قاذف "البي سفن"، وعلى الجدار المقابل شجرة أَسماء تنتهي بزين العابدين بن الحسين بن عليِّ بن أَبي طالب، مرسومة بخطِّ الثُّلث باللَّون الأَسود على جدار أَبيض.
أبوه قضى عمره وهو يسافر بين البلاد محاولاً أَن يثبت نسبه إلى عليِّ بن أَبي طالب، كان كلَّما عاد من سفره أَضاف اسماً أَو أَسماء على الجدار، وحين سقطت الضفَّة، سقط الجدار، وتهدَّم البيت، جاء إلى الزَّرقاء، واستقرَّ في المخيَّم، وراح يعيد بناء الشَّجرة من جديد، ويسافر من جديد، حتَّى عاد أَخيراً بصكِّ نسبه من المغرب ممهوراً بختم الدَّولة، فانتشر الخبر، ثمَّة من جاء يبايعه، وثمَّة من جاء محاولاً قتله بعد أَن اتُّهم بالكذب، والفُسق، والتَّزوير، رجال المخابرات حين علموا بالأَمر أَلقوا القبض عليه، وأَشبعوه ضرباً، وصادروا الصكَّ، وهدَّدوه بالسِّجن إن هو عاد من جديد إلى الموضوع، فاستسلم للواقع، وطرد النَّاس، وحين شعر بالجوع راح يعمل في كسَّارة للحجارة في عمَّان، حتَّى نسوه مرَّة هناك، في بطن الجبل، أَو تناسوه، أَثناء التَّفجير، وعادوا به أَشلاء إلى سميرة الَّتي لم تتحمَّل هول المشهد، فأُصيبت بالجنون.