وأنت الجالس الآن في شرفتك، تتوق إلى التعلق بشمسٍ تستمتع بدفئها وتحاورها بفنجان قهوة وجريدة على مرأى مدينة، إنه الصباح.
وصباحاتك أنت لها طعمٌ آخر ونكهة أخرى في هذه المدينة التي حرمتك من الشعر، من شدة مراهقتها وهرولتها نحو الإسمنت وأبراج البلوغ السريع، لتتجه إلى نصٍ شاسع بالإحتمالات والأقدار، لتذبح الكلام وينثر دمه فوق الصفحات.. يا لهذا الوصف.!
كنت تنتظر شيئاً، منذ أن أحترفت كان وأنت ناقص، أصبحت قليل النبض والمبادرة والتجدد لا شيء تستمتع به الآن سوى فنجان القهوة. إذ تركز مُمعنًا في لذتك الصباحية المفاجئة، كأن ثمة ما حطَّ عليك برداً وسلاماً. تتأهب لأمرٍ ما، ينشرح صدرك لوهمٍ يتعربش شرفتك، ثم تتنهد مبتسمًا بغموض. فماذا تفعل الآن؟
ماذا يفعل الآن ..؟
بعد أن إستنفذت آخر رشفة لك في الفنجان، أين تمضي وكل دروبك باتت بعيدة ومغلقة. بفعل هذه العزلة الجارفة؟
لاشيء يهزك ولا حتى الخريف الذي سيتساقط بعد قليل، لم يعد ثمة ما تقوله أو يدعوك إلى جنون الليل والكتابة وتنهدات الأوراق، وحب كان يقودك دوماً إلى اعمق هاويات البياض لتعود بقصيدةٍ أو مطلع .
أنت الذي كنت تخربش بحبرٍ من عبقِها، من شعرها تكتب شِعراً يصخب بها، أنت الآن في جملة هذا الصباح الطويلة من أنت وشُرفة وصباح وجارة تأبى التنازل عن حقها الغابر فيه .
تتصفح الجريدة ..
كم هي كبيرة وضخمة.. "أنت بحاجة إلى يديْن مدربتيْن حتى لا تضجر وتتعب من إمساكها في كلتيْهما." .. تقول في سرّك..
دوماً كنت تقرأ الجريدة بالعكس، تبدأ من الصفحة الأخيرة، حيث الأخبار الغريبة والعجيبة والتافهه أحياناً..
تتجاهل الصفحة الأولى المُعدّة مُسبقاً لآخر وأهم الأخبار، والوجوه ذاتها صاحبة الرتابة السياسية والتصريحات الجاهزة، تقرأ العناوين بسرعة كأنك على عجل ورحيل، إذا ما لفتك عنوان ما تقرؤه، تنتقي كلماتٍ معينة، فأنت تدرك تمامًا مدى الإنشاء والكلمات الروتينية، فالخبر لا يتجاوز السطرين في كثير من الأحيان وأما بقية الكلمات فهي صناعية تماماً.
تمضي إلى صفحة اخرى.. صفحة الوفيات.. صفحة الرياضة.. صفحة دولية، وحدها صفحة الاجتماعيات تكرهها، تتجاوزها مسرعاً كأنها أرض ملغومة لا تطلّ عليها ولا تعبر بها، بل تمر من جانبها خفيفاً من الحسرة. ولكن لماذا تمقت صفحة الاجتماعيات هل تغار؟ أم إنك لا تحب الخير للآخرين ؟
إطلاقاً.. فما هو إلا مجرد إختناق مرير حين تكتشف فادح خرابك، حين تلمحُ أخباراً للفرح، زفافاً هنا، وتخرجاً من الجامعة ومباركة بالمولود الجديد هناك، تدرك مدى تفرّدك في الخسارة والصمود حتى هذه اللحظة في عتيْ الوحدة.
" مالذي يستأهل كل هذا ؟"
تسأل نفسك جالساً أم مواسيًا، كأنك على مقعد متحرك لذوي الإحتياجات الخاصة والقلوب المعطوبة، وشمسك أنت باتت تطالبك بالرحيل لأنها ستصبح ضارّة بعد قليل.
تغادر الشرفة لترتب بيتاً لا قافية فيه ولا وزن، ثمة صورة شعرية فيه تشي بأنك شاعر، شاعر بلا مدينة.. بلا وطن.. شاعر بلا شعر.. ربما.
ترتب ما يجب ترتيبه، فأنت تكره تلك الصورة النمطية التي يشكلها الناس عن المثقفين أو الفنانين بشكل عام، والتي تُفيد بأنهم يعشقون حياة الفوضى والبوهيمية.
لا أحداث.. لا آثار تدل على مجيء أحد إليك في الليلة السابقة، كأس واحد على الطاولة، وأغانيك التي تحب، ومطفأة سجائر لنوع واحد فقط "مارلبورو".
تتأكد من ذلك سائلاً ذاتك، وكأنك تختبر صحة شكوكك حول نفسك حين تكون وحدك، إذ يحاصرك خوف باطني يؤدي بك إلى الشك في نفسك، كأن تصدق للحظة أنك مصاب بإنفصام شخصية دون أن تعرف، كأن تكون شاذاً جنسياً دون أن تعرف، أو عاشقاً لإمرأةٍ من نساء أعدائك دون أن تعرف. تبحث في مطفأة السجائر عن أثر لجنونك فلا تجد، تنطلق الى مطبخك .. تغسلُ طبقاً .. أو اثنيْن بدندنةٍ فيروزية.. ثم ماذا بعد؟
"إذن هي لم تأتِ؟"
تسأل نفسك مجدداً، لتحترق مجددًا بجهنم السؤال الذي يراودك منذ مطلع هذا النهار الذي يفيد بشيء مبهم وخارق.
عندما تفكر وتتبادر إلى قلبك تلك التي لم تزرك حتى الآن في بيتك وأردتك صريع عزلةٍ فيه، لا تفكر بما فعلته هي بك من غير قصد، بل تؤكد كبرياء الشاعر فيك مطالبًا بها في سرير القصيدة، هكذا تصفق وتزغرد يا رجل، فأنت تريد رائحتها في يديك وصدرك.
لم تأتِ.. ولكنها ستأتي يوماً وستقوم أنت بدفع رغبتك الدفينة إلى التأجج، ستنثرها في قصائدك نثراً، ستعلْقُ صرخة اكتفائها على مطلع قصيدة لا قراء ولا خاتمة لها سواك.