الحدث- ياسمين أسعد
تقف شاردة.. تحتضن الحقيبة المدرسية وتنتظر الحافلة في صباح دراسيٍ جديد، شريطُ ذكريات يمضي أمام عينيها، فيهما تلمس مزيج الذنب والندم المتوج بالأمل، أسئلة بلا أجوبة، وواقعٌ لا يقوى على تقبل القدر.. أصحيحٌ هو المقدّر أم هي من كانت المشتهى لمفترسٍ لا يعرف فريسته.
في المكان ذاته، اعتدت انتظار عودتها من رياض الأطفال، لم يهدأ قلبي طوال النهار، أرى وجهها في حباتِ زيتونٍ كنت ألتقطها، في قطراتِ غيثٍ طال غيابه، فارقتها وهي تنظر بحزنٍ من نافذة الحافلة، دموعها كانت تملأ وجنتيها، وليست كعادتها رفضتْ الذهاب للروضة، لكني تمكنتُ بإلحاحي المتواصل من اقناعها.. وذًهبتْ.
لم تتوقف أذناي عن سماعِ تنهيدها، فارتقبت الساعة دقيقة تلو الأخرى، انتفضتْ .. لم أعد أحتمل لوعة الانتظار اللعين، لَبستُ العباءة وناديت لجارتي "وعد" فقد اعتدنا الخروج سوياً لاصطحاب الفتاتين من الشارع فور وصولهما، كانت تنظر إلي باستغراب وتتسائل "تهاني لمَ العجلة!" فهناك ما يكفي من الوقت قبل الموعد المحدد.
وصلتْ الحافلة.. كانت تنزل ممسكةً بيد صديقتها تولين، وببريق عيونٍ مبتسمة.. تنفستُ الصعداء أخيراً، أو ربما لا.. كان الشارع حيث نزلت الفتاتين يعج بالسيارات والحركة بطيئة، هي في الرصيف المقابل تنتظر قدومي لأخذها، عبرت الشارع وفي النصف الآخر كانت تتقدم.. عيوني تراقب الاتجاهات الأربع.. لمحتُ سيارة مقبلة من الجانب الأيمن كان مستوطناً يهودياً، والطفلتان أمامه وهو لا يزال يقترب فعلاً... إنه لا يتوقف! كنتُ أُلوحُ له بترجي وغضب وقد ملأ قلبي الرعب.. أعاود النظر في عيونها لأسترق ما يطمئنني، ولكنه لم يكترث.. وكذلك الثواني لا تعرفُ طعم الانتظار!.... نعم، لقد قذفهما على الجانبين وهرب.. فسقطت "إيناس".
هرعت كلٌ منّا نحو ابنتها لعلها تيقظها من موتٍ بات محتّم، كنت أرتجف.. أركض.. أصرخ مرددةً "إيناس.. إيناس"، وعيناني لا تعرف سبيلاًُ سواها، وبلحظة.. رفعت "إيناس" رأسها ومدت يدها نحوي، رأيت بيدها الصغيرة بريق الخاتم التي فضلتْ أن تلبسه يومها رغم منعي المتواصل لها، أسرعت أكثر فاكثر لأمسكها، لكنها سرعان ما عادت ووقعت.. هززتها بعنف مراراً.. دون جدوى.
كنت أحملها بين ذراعي.. تتساقط دموعي على وجهها المزرقّ لعلها تُحيي تلك الأميرة النائمة... حاول الطبيب المسعف في مستشفى البلدة المجاورة "ترمسعيا" انقاذها بشدة لتبوء محاولاته بالفشل، ويطلب نقلها الفوري إلى مستشفى رام الله، ساعةٌ مضت على وقوع الحادث ولا زلت أتخبط لا أعلم مصيرها أو مصير صديقتها تولين.. أنظر إلى "وعد" وحالها يشتد سوء.. لا أملك من الكلمات ما يطمئن قلبها المرتجف.. فخوفي أشد وأعصابي لم تعد تتحمل، صرخت رغبة برؤيتها، إلى أن خرج الطبيب يطلب وحدات إضافية من الدم قائلاً "دماغها ميت"، ليخرجَ مرة ثانية ويزف لنا خبر استشهادها..
لم أشعر حينها بأطرافي وأرجلي لم تقوى على الوقوف، تتردد صورها أمامي، وعقلي يرفض التصديق.. سقطتُ.. حل الظلام وانعدمت البصيرة.
ليلةٌ لم تمضِ، كيف يكون ذلك وقد استُبدل حضني بجدران ثلاجة، ورحت أشتمها بدميتها، دموعي لم تكن تحرقني فحسب، حسست بقلبي يخرج آلاف المرات في اللحظة.. حلفتُ لأدفن معها غداً.. وانتظرت الصباح.
المسك وفستانٍ أبيض.. الوداع
"كانت إيناس تحب العطر، واعتادت قبل خروجها للمدرسة أن تأتي لأعطرها" هذا ما قالته الحاجة أم علي جدة إيناس، مستطردة: "عند ذهابي للمغسل أخذت "جهازها" وكأنها عروس، غسلّتُها وألبستها الفستان الأبيض المفضل لديها أما العطر فلم احتاجه، فرائحة جسدها كان كالأيل المنبعث بالمسك، احتفظت بملابسها ولن أغسلها أبداً".
كنت ضعيفة بما يكفي لأُحرم من غسلها، بقيت أتحسس جسدها المثلج وأملأ عيناي من وجهها، وددت الصراخ من ألم ما أشعر.. تمنيتُ لو أستطيع لكني خُفت! نعم، خفتُ عليها من صراخي وعذاب بكائي.. همست في أذنها آياتٍ من القرآن.. استجمعت قواي.. قبلتها وانهرت في البكاء.
محمد شقيق إيناس"10 سنوات" قاطع الجميع قائلا "شفتها بالجامع كان سنها مكسور من الحادث، وتحت عيونها أزرق.. وجسمها بارد، أول مرة بشوفها هادية وما بتضحك". تلك الكلمات البريئة جددت دموع الأم الحزينة "تهاني" التي لطالما خبأتها عن الجميع.
ولم يمنعه حماسه من إخباري عن مدى حبه لها، فبات يكرر: "كنت أقبلها كل صباح، والآن لا تنام بجانبي.. بل هناك في القبر".
وبصوتٍ مرتجف وعيون تملأوها الدموع، قالت الشقيقة الكبرى علا (12 عاما): "لم أتخيل قط أن تكون تلك الفتاة التي يتحدث عنها أهل البلد، هي أختي الصغرى، ورغم محاولات الجميع الرامية لإخفاء الخبر، شعرت بشيء ما يحدث، حاولت السؤال عنها، حتى استسلمت عمتي بعد إالحاحي وأخبرتني بما لم أرغب بسماعه".
واستطردت: "ودعت صديقتي، وشقيقتي الوحيدة، عندما رفعوها على الأكتف متجهين بها نحو غرفتها الجديدة.. وتذكرت كيف كانت تأخذ ألعابي ولا أغضب منها أبداً، فهي كانت تبقيني مبتسمة، وكنا نغني سويا أغاني الروضة".
في اليوم الثاني من الحادث، رُفِعَ الآذان وخرج الآلاف من أبناء قريتها "سنجل" والقرى المجاورة، ليزفوا الشهيدة إيناس دار علي ابنة الـ4 أعوام، ملاك الجنة وعروس الرحمان، حشودٌ لم يشهد لها مثيل في بلدتها، تنطلق من مسجد سنجل الكبير، لتمتلئ القرية بطلبة مدارس وأطفال يحملون الورود لصديقتهم.. لم يفهموا ما حدث لها ولا أين ذهبت، معلماتٌ احتضنّها وأهلٌ صادقوها، لتصل إلى مقبرة القرية وتدفن هناك، تاركين خلفهم دموعا امتزجت بالطين وذكريات البراءة وباقات الورود.
لم يهدأ أهالي قرية سنجل، ولم تغفى عيونهم إلا بالثأئر لملاك كان فريسة الحقد والاستيطان، قُتِلَ بدم بارد بيد مستوطنٍ متطرفٍ من مستوطنة "يتسهار"، لا يعرف سوى القتل ولا يجيد الرحمة. انتفضت القرية لأجلها، ودقت ساعات المواجهات العنيفة مع جيش الاحتلال على أطراف البلدة، لتشهد الأخيرة يوماً حافلاً بالتصادمات والإصابات لقطعان المستوطين في الشارع ذاته "شارع 60" ولم تهدأ حتى فجر اليوم التالي.
حداد.. وحقٌ مسلوب
كانت دموع الأب شوكت (35 عاما) هي الأقسى في أيام العزاء، دموعٌ باتت تذرف دون يقظة.. يقلب كفيه ويقول: "لم أراها منذ 3 أيام، لقد كنت أعمل طوال الليل.. لكن الندم لا ينفع الآن". ويكرر بصوتٍ تملأه الحسرة: "راحت إيناس!"
اصطحبني الأب لمكان الحادث، -الواصل بين شمال الضفة الغربية ووسطها بين قرية سنجل وترمسعيا تحديداً- كان يصف بقوة المكان ويعيد تمثيل الحادث محاولٍ ايضاح التفاصيل لعلني أدرك الأسباب الحقيقة للحادث.
يقول شوكت مشيراً إلى المكان: "سلطات الاحتلال أغلقت مدخل البلدة المجاور للمنزل، وكذلك المدخل الثاني المقابل المؤدي للممدرسة بمكعبات إسمنتية يفصل بينها الشارع، ما يفرض علينا تجاوز الحاجزين والمرور من وإلى البلدة عبر الشارع الرئيسي سيراً عل الأقدام".
واستطرد: "أكان المستوطن يقصد أم لا، في الحالتين الاحتلال قتل ابنتي عبر سياسته التعسفيه والاغلاقات التضيقية علينا، ناهيك عن الاعتداءات المستمرة لمستوطني مستعمرتي "تشيلو" و"معليه لبونة" الأكثر تطرفاً على القرية، ومحاولاتهم الدائمة التخلص من العرب".
"إيناس.. تولين.. محمد أبو خضير" وغيرهم الكثير ممن قضوا بأيدي مستوطنين متطرفين، لا رادع لعنفهم، أيادي أطفال تطلب الأمان.. ألم يحن الوقت لنجدتهم من مجازر الاحتلال!
أيامٌ تمضي على استشهاد إيناس، سرير فارغ ومنزلٌ يملأوه السكون، أصواتُ ضَحكاتٍ وغناءٍ تخنق الذكريات.. دميةً بيدين أم أحرق فؤادها الاشتياق. وكرسيٌ يحمل اسمها في رياضٍ لن يرى بسمتها مجدداً، لتعلن الأرجوحة الحداد الأبدي لفراقها.