خروجاً عن اسلوب الحكاية المتبع عادة أكتب هذه المرة، ربما هي رسالة للقرية التي أحب وأشتهي.
انه أيّار المكتظ بذاكرة الدم والتراب والرحيل والبلاد واللحم الحي. أيّار النكبة والخيبة، وأيار المرأة المنشغلة بقطاف المشمش والتفاح السكّري.
ها هي النكبة تمر في ذكراها التاسعة والستين دون ان نقترب من البلاد خطوة واحدة، فالبحر ما زال خلف الجدار ولم تعد النوارس تحمل لنا نشيده الصباحي خوفا من البنادق.
وها هي الارض تصغر علينا في كل يوم مستوطنة وتضيق انقساماً، وبات فعل الاقتراب منها مستحيلاً، بل إن الحديث عن سبل الاقتراب منها أصبح من باب التنظير على لسان العاجز، هكذا سمعتهم يقولون بعد تلاوة البيان الساخن!
الان في المعتقلات أجساد تجتاز شهرا كاملا من الجوع في إضرابها المفتوح عن الطعام، أيُّ عُشّاق أولئك الذين يحملون جوعهم ويسيرون به صوب فجر يليقُ بك!
هم لم يحيدوا، أما نحن في السجن الكبير، فقد استنسخنا تيه التاريخ وتقمصناه حتى تاهت معالمنا وفقدنا معجم الكلمات!
صدّقيني ما عدنا نقدر على البوح، لا الفعل فحسب!
وانا أخط لك هذه الرسالة أتذكر ذلك البيان الذي تُلي بحنجرة من رعد في الثاني والعشرين من أيّار من العام ١٩٨٨، يومها صدحت حنجرة الملثم تدعو الشعب للعصيان المدني، كُنْت في مثل تلك الليلة قد ولدتُ، وحين جاء البيانُ، قلتُ: تزامن الميلاد بين أمل الحرية، وانبلاجي من عتمة الرحم.
اليوم، من عتمة الزنزانة أصدر قادة الإضراب البيان ذاته مرة أخرى يدعون فيه إلى العصيان، فالعصيان ضوء الأمل في حلكة هذه العتمة التي تستبيحنا وشكل الرفض المتاح في وجه السجان.
قبل أيّامٍ، حين كتبت قَسَم الحرية والكرامة، كُنْتِ وحدكِ العهد الذي أردتُ كتابته، فكان ترابك خصباً، وفيا للشهداء، وجاء القسم يحمل ملامح البيوت التي ظلت مشرعة رغم الغياب، وحين أقسمت به الاف الحناجر عند ميدان نلسون منديلا في رام الله، وشاهدته مرارا من خلال الفيديوهات المصورة، عرفت أنك الحاضرة في قلوب الناس وأنهم بالفطرة أوفياء لقمحكِ والحقول، فبدا الانقسام مذموماً، والجدار هشاً، وسطع الأمل من الحناجر متوهجاً بالعهد والقسم.
حينها تملكتني الرغبة أن أركض نحو الناس، أهزّهم واحدا واحدا، وأخبرهم بأنني من سهل قريتي الأولى زرعين، قطفت هذه الكلمات التي باتت قسماً تردده الاف الحناجر.
ما زلتُ بعد تسعة وستين عاماً، أكتبُ لَكِ الأغاني التي تقاوم النسيان، والعهد الذي يبقيكِ صبيّة نيسانيّة مفعمة بالعشب المفاجئ والشعار الذي ما زالَ مكتوباً على الجدار: لن ننسى.