كتاب للباحث د. عبدالله مغربي
"من جرجرة إلى الكرمل- تجربة عائلة عبدالرحمن مغربي في الهجرة والهوية"، كتاب جديد صدر في أبوظبي للباحث د. عبدالله صلاح مغربي، ويقع في 308 صفحات من القطع الكبير، ومزود بالوثائق والخرائط والصور، يرصد فيه الباحث رحلة عائلة "مغربي" من منطقة جرجرة، التي تقع شمال الجزائر بين ولايات تيزي وزو، والبويرة وبجاية، وهي على حدود البحر الأبيض المتوسط، وتشكل سلسلة جبال طويلة تعتبر من بين أجمل الجبال في العالم لاكتسائها بالثلوج شتاء، إلى منطقة الكرمل في فلسطين المحتلة، المعروفة بجبلها المطل على البحر الأبيض المتوسط، وعلى مدينة حيفا وخليج عكا، وهو امتداد لجبال نابلس، ويقع جزء كبير من مدينة حيفا على جبل الكرمل وكذلك بعض القرى الفلسطينية مثل أم الزينات وقرية أجزم وأحراش الكرمل. وقد قال الشاعر الراحل محمود درويش في قصيدته "النزول إلى الكرمل:
ليوم يجدّد لي موعدي، قلت للكرمل: الآن أمضي
وينشر البحر بين السماء ومدخل جرحي
وأذهب في أفق ينحني فوقنا، ويصلّي
لنا، أو يكسرنا، هذه الأرض تشبهمنا
حين نأتي إليها، وتشبهنا حين نذهب عنها.
وهذه اللغة "الدرويشية" المحملة بالهجرة والانتقال من مكان إلى آخر لا تبتعد كثيرا عن اللغة التي استخدمها الباحث د. المغربي، فقد أتت محملة بالشجن والغربة وأحيانا الإحساس بالضياع، وهو شعور يرتدي كل من يدخل في أدغال التاريخ للبحث عن جذوره لمعرفة نفسه ومنطقة انحداره ويعزز انتماءه في حال الوصول إلى حقيقة يطمئن فيها إلى النقطة التي انطلق منها الأجداد هائمين في أرض الله الواسعة، ولم تخرج هذه الأرض عن المساحة العربية، فمن جرجرة في الجزائر إلى الكرمل في فلسطين ثم إلى صيدا في لبنان وبعدها إلى استراليا ثم إلى الإمارات، حيث يعمل الباحث في مجال البحوث والدراسات الاستشارية.
لقد أراد الباحث التعرف على جذر العائلة، وقد حقق وتحقق من نسبة كبيرة من هذه المعرفة، إلا أن روح الباحث المخلصة فتحت آفاقا كبيرة للبحث التاريخي في أسباب الهجرة وأحجامها ودروبها وأدوار المهاجرين وممارسات المستعمرين في الجزائر وفلسطين، ووزعها على ستة فصول، حيث درس في الفصل الأول طبيعة الهجرة الجزائرية إلى بلاد الشام، ودوافعها ومراحلها والصراع على تجنيس المهاجرين، وتحدث في الفصل الثاني عن مواطن المهاجرين الجزائريين في بلاد الاغتراب الشامية، وخاصة سورية وفلسطين، كنموذج لهذه المواطن، واستهداف أراضيهم من قبل الصهاينة، ودورهم في النضال ضد الاستيطان الصهيوني، وخصص الفصل الثالث للحديث عن تجربة الاغتراب لدى عائلة المغربي، نموذجا لغيرها من العائلات التي هاجرت من الجزائر بسبب الاستعمار الفرنسي، وتوزع الحديث فيها على موطن العائلة الأصلي في الجزائر ومناقشة مصطلح "مغربي"، ثم الحديث عن الهجرة الثانية إلى صيدا في لبنان بعد نكبة فلسطين عام 1948.
وجاء الفصل الرابع خاصاً بتكوين الهوية الفلسطينية ووثائق العائلة الفرنسية، وزمن الانتداب البريطاني، وتحدث في الفصل الخامس عن العلاقة التي كانت قائمة بين المهاجرين الجزائريين والسفارات والقنصليات الفرنسية المتواجدة في بلاد الشام الكبيرة، حيث أشار الباحث إلى أن العلاقة كانت نوعا من الوهم يتعلق به المهاجرون أملا في الرعاية وتمكينهم من العودة إلى ديارهم،، ثم جاء الفصل السادس ليستعرض مشكلة المهاجرين الجزائريين الذين فقدوا جنسيتهم بسبب التهجير القسري من الجزائر وفلسطين.
ويؤكد الباحث د. مغربي أن دوافع الهجرة كانت اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية ودينية ونفسية، ولكنه يعطي أولوية لدافعين هما الدافع السياسي والدافع العسكري الفرنسي، حيث ساهم الاحتلال الفرنسي عن طريق ممارساته الوحشية في دفع الجزائريين إلى الهجرة، فقد وصل الأمر بالفرنسيين إلى تدمير مدن بأكملها، كما فعلوا في مدسنة "معسكر" في الغرب الجزائري، ومدينة قسنطينة في الشرق الجزائري عام 1836، ومن دوافع الهجرة الجزائرية إلى بلاد الشام، يذكر الباحث وجود الأمير عبدالقادر الجزائري في دمشق، حيث أصبح عاملا جاذباً في تجمع الجزائريين وزيادة أعدادهم، ويقال أنه وصل إلى سوريا في الفترة من 1847-1871 حوالي 200 ألف جزائري، كان أغلبهم من منطقتي "القبائل وتلمسان". وبعد نكبة 1948 في فلسطين، أنشأ المغاربة، وأغلبهم من الجزائريين، حيّا في مخيّم اليرموك.
المهاجرون الجزائريون في فلسطين
يقول الباحث أن وجهة المهاجرين الجزائريين في بادئ الأمر كانت مدينة دمشق، ومنها كانوا يتوزعون في قرى ولاية دمشق، ومن ثم بدأ المهاجرون ينتشرون في مناطق موانئ الوصول مثل يافا وعكا وبيروت، وكان لفلسطين حصة الأسد في الانتشار الجزائري بعد سوريا، فأقاموا في مدينة صفد وسكن أغلبهم في حارة الأكراد، وأقاموا في طبرية حيث أسسوا خمس قرى جزائرية في تلك المنطقة، وكذلك نزلوا في حيفا وقراها المحيطة، كما انتشر المهاجرون الجزائريون في الجليل وعكا ويافا والقدس، لكن أكبر تجمع لهم استقر في قرى الجليل الأعلى.
وقد لعب المهاجرون الجزائريون دورا مهما في محاربة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ويشير الباحث إلى أنهم فهموا الأبعاد السياسية لقيام تلك المستوطنات، قبل أن يدركها المواطنون الفلسطينيون، نظرا لتجاربهم مع المستوطن الفرنسي في الجزائر، فسعوا إلى شراء الأراضي وتملكها والحفاظ عليها، ففلسطين كانت مقدساً إسلامياً عزيزاً على نفوسهم. وينقل الباحث معلومة تقول أن الأوقاف الجزائرية الموجودة في فلسطين هي أكثر من أي أوقاف أخرى في العالم، إلا أن اليهود عبر وكلائهم والسماسرة، استطاعوا إغراء بعض أبناء الأمير عبدالقادر الجزائري، فباعوا بعض ما ورثوه من أراض عن والدهم، إلا أن معظم الجزائريين انخرطوا في صفوف المقاومة الفلسطينية وقدموا شهداء كثيرين في الثورات التي شهدتها فلسطين ضد البريطانيين والصهاينة.
ويواصل الباحث خلال 200 صفحة البحث في هجرة عائلة المغربي من الجزائر إلى حيفا ثم لبنان وبعدها أستراليا، مستعينا بالحكايا والقصص والذكريات وما تبقى من ذاكرة كبار السن.
ويخلص الباحث إلى القول أن عائلة "مغربي" عانت كغيرها من المهاجرين الجزائريين لأكثر من 120 عاماً من نوعين من الغربة: غربة المكان وغربة الزمان. ويختم بالقول: " إذا كان المهاجر الفلسطيني، تمكن في بعض الدول العربية من الحصول على جنسية جديدة ومواطنة جديدة، على الرغم من عروبتهما، ووثيقة تثبت فلسطينيته في البعض الآخر، إلا أن المهاجر الجزائري الخارج من فلسطين، ظل يعيش صراع الجنسية وهموم المواطنة.
لقد تجاوز د. مغربي رحلة البحث عن أصل عائلته، ليدخل في رحلة بحث عن حقائق أخرى في التاريخ الجزائري والفلسطيني، فتداخل الخاص بالعام والشخصي بالوطني، والعاطفة بالمعلومة، بأسلوب جذاب يفتح شهية القارئ للمتابعة، حتى وإن لم يكن من عائلة "المغربي"، فالسرد التاريخي الخاص بفلسطين أو بالجزائر، والمدعم بالتفاصيل الإنسانية والتاريخية المهمة، هو مرآة لمعاناة المهاجرين العرب، الذين أجبروا على ترك بلادهم عنوةً. ولاشك أن هذا الكتاب سيفتح شهية الباحثين الفلسطينيين والجزائريين للتدقيق والتمحيص أكثر، بالأفكار والوقائع التي طرحها الباحث.